المعرفة'2'

أمور فوق معرفتنا­ معرفة ضارة

مستويات المعرفة­ معرفة النفس

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

29/10/2005

جريدة أخبار اليوم

 

 

تكلمنا في العدد الماضي عن معرفة الله­ تبارك اسمه­ مع مقارنة بسيطة بمعرفة الناس. ونود اليوم ان نكمل حديثنا عن معرفة الناس: في الواقع ما اقل ما نعرفه، علي الرغم من انتشار العلم! فنسبة ما نعرفه ضئيلة اذا قورنت بما لا نعرفه..!

ولا شك ان هناك عجائب فوقنا لا ندركها.وقد سمح الله بوجود امور كثيرة تخفي علينا معرفتها حتي لا يصاب العقل البشري بالغرور في عصر التكنولوجيا الحديثة.

*****

ولعل في مقدمة ما نجهله، موضوع المعجزة والمعجزة سميت هكذا، لان العقل البشري يعجز عن تفسيرها.. انها ليست ضد العقل، ولكنها مستوي فوق العقل، وعلي الرغم من ان العقل لا يدرك كيف تتم، الا انه يقبلها بالايمان ولا يهمه ان يعرف كيف تتم والمعجزات امر يؤمن به كل متدين.ولعل من ابرز المعجزات التي يؤمن بها الكل: الخلق، والقيامة العامة.

­ كلنا نؤمن ان الله خلق الكون، اي اوجده من العدم حيث لم يكن الكون موجودا، خلق البشر والملائكة والطبيعة. ولكن كيف خلقها؟ باية قدرة؟ هنا العقل لا يعرف. ولكنه يقبل بالايمان.

­ ونفس الوضع بالنسبة الي القيامة العامة 'او البعث'، كلنا نؤمن بذلك. والعقل يقبله، دون ان يعرف اطلاقا كيفما يعود الانسان الي الحياة بعد الموت! معرفة هذا الامر هي فوق مستوانا.

*****

كلها امور تتعلق بقدرة الله غير المحدودة

وعبارة 'غير المحدود' يقف امامها العقل عاجزا في معرفته ..واستخدام هذه العبارة من جهة الزمن، امر اخر فوق نطاق معرفة العقل.. فكلمة ازلي، وكلمة ابدي، وكلمة سرمدي.. اي ما لا بداية له ولا نهاية، امور قد يستخدمها العقل ولكنها فوق معرفته! حقا ما معني عبارة 'لا بداية له'؟! ما معني الازلية؟ ومتي قطع نطاق الازلية في وقت ما ليوجد الكون؟.. انها امور لا يفحصها العقل وانما يقدمها الايمان ويقبلها الانسان بالتسليم، كثوابت ايمانية.

*****

أمور اخري فوق معرفتنا، تتعلق بالعالم الآخر..

متي ستكون بداية العالم الاخر؟ وكيف تكون؟ واين؟..

انها امور ترتبط بالروح والموت وما بعد الموت.. وهي ايضا فوق نطاق معرفتنا وتتعلق ايضا بالنفس وكنهها وخواصها، وبالعقل.. ثم اليس عجيبا ان العقل لا يعرف تماما كيف يعمل العقل!! وما مدي علاقة العقل بالمخ وما فيه من مراكز تعمل؟ وكيف يتوقف بعضها عن العمل، ويعجز العلم البشري والعقل البشري عن اعادة مراكز المخ المتوقفة الي عملها الطبيعي!

*****

بل في عالمنا الحاضر، العالم المادي، أمور كثيرة لا نعرفها..

­ مثال ذلك ما اقل معرفتنا عن الفلك وما فيه من شموس ونجوم وكواكب، وما فيه من شهب ومجرات.. كل ما نعرفه هو معرفة سطحية لا تدخل في نطاق التفاصيل.. لقد فرحنا ببعض احجار من القمر، اتي بها رواد الفضاء، ومع ذلك لا يزال القمر لغزا لا نحيط بكامل المعرفة عنه!

­ ونفس الوضع نقوله عما نعرفه من جهة اعماق الارض واعماق البحار.. هناك معلومات بسيطة يقدمها لنا العلم نتيجة لاكتشاف وحفريات.. وتبقي الحقيقة الكاملة بعيدة عن معرفتها ونفس الكلام نقوله عن محتويات الجبال، وعن بعض الكوارث الطبيعية كالزلازل والاعاصير والسيول والبراكين: ما تبدأ؟ ونطاق عملها وكيف تنتهي.

­ هناك ايضا امراض خطيرة، مازال العلم حائرا امامها، لا يعرف اسبابها، ولا يعرف طريقة القضاء عليها قبل ان تقضي علي المرضي!

 

وما دامت معرفتنا محدودة نواجه سؤالا وهو: كيف ننمو في المعرفة؟

من جهة المعرفة: الممكنة، هناك وسائل عديدة لنموها: منها العلم، والقراءة، والمشورة، والخبرة، والتوعية. وكما قال الشاعر:فاطلب العلم علي أربابه واطلب الحكمة عند الحكماء

وحتي كل هؤلاء يقدمون من العلم علي قدر معرفتهم ولا شك معرفتهم محدودة. وقد تختلف مصادر المعرفة علي حسب قامتها ونوعيتها.. حتي معرفة تفاصيل عن الخير والشر وما يجب وما يجوز وما يليق، قد تختلف فيه الاراء. وقد تختلط المعرفة بالطباع والنزعات والاهواء واحيانا يتأثر التوجيه والارشاد بما ينتشر من الشائعات.

*****

ومما لاشك فيه ان هناك نموا في المعرفة في العالم الاخر:

فعندما تخرج الروح من الجسد بالموت، تصبح معرفتها اكثر بعد ان تخلصت من ضباب هذا الجسد المادي ومن غرائزه ونزعاته وتأثراته.اما في الابدية فسوف يتمتع البشر بلون من المعرفة اكثر عمقا عن طريق الكشف الالهي revelation وعن طريق ما سوف يراه الانسان من كائنات اخري كالملائكة مثلا، وما يختلط به من الابرار بكل معارفهم.. ومن امور اخري جديدة عليه.

وعموما فان المعرفة تنمو ايضا بالموهبة اي بما يهبه الله للانسان من مواهب منها المعرفة والحكمة واتساع العقل ومقدراته.

*****

وهناك معرفة في العالم الاخر، اعمق من كل هذا واسمي بما لا يقاس. وهي معرفتنا لله جل جلاله.

اننا لا نعرف عن الله حاليا الا ما يكشفه لنا الوحي الالهي، لكي نؤمن بالله ونطيع وصاياه. ولكن الله غير محدود والعقل البشري­ مهما سما­ هو محدود. ولا يستطيع ان يحيط المحدود بغير المحدود..

لذلك في العالم الاخر سوف يكشف لنا الله عما يوسع معرفتنا به­ تبارك اسمه­ وعلي قدر ما يمكن لطبيعتنا البشرية ان تعرفه، شيئا فشيئا، وكلما تزداد معرفتنا بالله تزداد سعادتنا في الابدية وتكون هذه المعرفة هي اشهي ما نتمتع به.

 

ان المعرفة افضل من الجهل بقدر ما النور افضل من الظلام.

ولكن ليست كل معرفة نافعة، فهناك معارف تافهة وايضا هناك معرفة ضارة..!

­ اما المعرفة التافهة فتختص بامور لا تنفع شيئا وللاسف كثيرا ما يسعي اليها الناس او ينشغلون بها وهي مضيعة للوقت وتشغل الذهن عن التفكير في ما ينفعه وصدق ذلك الاب الروحي الذي قال: كثيرا ما نجهد انفسنا في معرفة امور لا ندان في اليوم الاخير علي جهلنا اياها!

­ اما المعرفة الضارة فلها امثلة عديدة منها:

معرفة ما يقوله عنك منافسوك واعداؤك مما يثير قلبك عليهم. ومعرفة الشكوك الخطيرة التي تهز الايمان في ثوابت تخص العقيدة.. ومعرفة صور من الخطيئة وتفاصيل تشوه نقاوة القلب، وتجلب له شهوات تتعبه.. ومعرفة اسرار بعض الناس واخطائهم مما يغير الانسان اليهم وتقديره لهم.. ومعرفة امور اخري مماثلة يقول عنها القلب في صدق 'ليتني مع عرفت'!

­ كذلك من الامور الضارة المعرفة التي تنفخ والتي تصيب النفس بالخيلاء والكبرياء والي التباهي بالمعرفة..!

*****

علي ان من الامور اللازمة لكل شخص ان يعرف نفسه جيدا..

وصدق ذلك الفيلسوف الذي قال: 'خير الناس من عرف قدر نفسه'. وهكذا لا يقع في الغرور ولا يتجاوز حدوده ولا ينسب الي نفسه ما ليس فيه.. بل يعرف ويوقن انه مخلوق من تراب الارض.

واتذكر انني قلت مرة في احدي القصائد:

قل لمن يعتز بالالقاب ان صاح في فخره: من اعظم مني؟!

انت في الاصل تراب 'تافه'­ هل سينسي اصله من قال اني؟!

ويهمنا في المعرفة ايضا: ارتباط المعرفة بالعمل

فماذا يفيد الانسان ان عرف كل شيء عن الفضيلة ولم يسلك فيها؟!

لا شك ان الذي يعرف أكثر يطالب بأكثر.