العالم مُحتاج

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

5/2/2012

جريدة الأهرام

 

 

        على الرغم من كل ما في العالم من كنوز، ومن خيرات لا تُحصَى، ومن نتائج كثيرة لنمو العلم والمخترعات، ومن نتائج عجيبة للمدنية والحضارة والعلم ... ومع ذلك فإنه محتاج. ولعلنا نسأل إلى أي شيء هو مُحتاج؟!

        العالم مُحتاج إلى السلام وإلى الهدوء، فإلى أي مكان نذهب إليه نجد احتياج العالم إلى السلام، في هذا الجو المضطرب، والذي يموج بالاختلافات في كل بلد وفي كل مكان … حتى إنك لا تتصفح الجرائد في أي يوم، إلاَّ وتجد أخبار الصحف الرئيسية عن مشاكل العالم جملة، وعن المشاكل المحلية في كل بلد. تجد هذا في العناوين الرئيسية. فإن دخلت إلى التفاصيل تجد ما هو أبشع … نعم هذا هو العالم الذي خلقه اللَّه في سلام. وفيه كان يعيش أبونا آدم في سلام حتى مع الوحوش. كانت في سلام معه، ويعيش هو في سلام معها. وتأتي إليه ويُسمِّيها بأسماء … وبنفس الوضع كان يعيش أبونا نوح مع الوحوش في الفُلك ويهتم بها ويُغذِّيها، ويتعهَّدها بالرعاية.

        وإن كان السلام هكذا، فإن اللَّه قد أوصانا قائلاً: " وأي بيت دخلتموه، فقولوا سلام لأهل هذا البيت ". وهكذا عندما كنت أزور أي بيت من بيوت أولادنا في المهجر، كانت أوّل عبارة أقولها عندما تخطو قدماي باب بيتهم، كنت أقول: قال الرب: " وأي بيت دخلتموه فقولوا سلام لأهل هذا البيت ".

        والسلام معروف في كل تحياتنا مع بعضنا البعض … فإن حضر أحد من سَفَرٍ نقول له: حمد للَّه على السلامة. وإن سافر، نقول له: مع السلامة. وإن وقع على الأرض، نقول له: سلامتك. وأي اجتماع رسمي، نبدأه بالسلام الجمهوري.

«« والسلام على أنواع ثلاثة: سلام مع اللَّه، وسلام مع الناس، وسلام داخل النفس، في الفكر وفي القلب، ما بين الإنسان وبين نفسه. ولذلك فالإنسان البار هو في سلام مع اللَّه.

        أمَّا إذا بدأ بالخطية يبتعد عن اللَّه، حينئذ يفقد سلامه الداخلي، ويحتاج أن يصطلح مع اللَّه بالرجوع إليه. غير المؤمن يصطلح مع اللَّه بالإيمان وحياة البِرّ.

        أمَّا المؤمن الخاطئ، فيصطلح مع اللَّه بالإيمان وحياة البر. وإلهنا المُحب الغفور يكون مستعداً لقبول ذلك الصُّلح، إذ يقول: " ارجعوا إليَّ أرجع إليكم ".

        ويأتي هذا السلام أيضاً بحفظ اللَّه للإنسان: كما يقول: ها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب ... أحفظك من حروب الشياطين، ومن الناس الأشرار ... وأحفظك من حروبك الداخلية، وأحفظ دخولك وخروجك. وينضم إلى هذا المزمور وعود اللَّه الكثيرة، كقوله: " ها أنا معكم كُلَّ الأيَّام وإلى انقضاء الدَّهر ". وقوله عن الكنيسة: " إن أبواب الجحيم لن تقوى عليها ".

«« نقطة ثانية وهى سلام مع الناس، فيها يُسلِّم الناس على بعضهم البعض ليس فقط بالأيدي وإنما بالقلب والشعور أيضاً. وإن كانت بينهم خصومة من قبل فإنهم يتصالحون. ولأنه قد يبدو من الصعب أن تصطلح النفس مع كثير من الأعداء والمقاومين، فإن الكتاب يقول: " إن كان مُمكِناً، فعلى قدر طاقتكم سالموا جميع الناس ". وقيل " على قدر طاقتكم " فإن هناك أشخاص تحاول أن تُسالمهم وهم لا يريدون إمَّا بسبب طباعهم، أو بسبب أن سلوكك الطيِّب يكشف سلوكهم الرديء، أو لأنهم يحسدونك بسبب نجاحك، أو بسبب تدبير أو بسبب تدابير مُعيَّنة يُدبِّرونها، أو لأي سبب آخر ... فهؤلاء أيضاً سالمهم حسب طاقتك ... وإن وُجِدَ خلاف فلا يكُن بسببك أنت. قد يُعاكسك الغير. ولكن لا تبدأ أنت بالخصومة. ولا تكُن حساساً جداً من جهة احتمال أخطاء الغير كُن واسع الصدر حليماً وتذكَّر أنه قيل عن موسى النبي: " وكان الرَّجُل موسى حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض ".

        إن بدأ الغير بالخصومة فاحتمل، فقد قيل في الكتاب: " لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحبَّاءُ ... لا تجازوا أحداً عن شر بشرٍّ ". لذلك ابعد عن الغضب. ولا تُعطِ فرصة لأحد أن يستثيرك فتخطئ. واسمع هذه النصيحة الغالية: " لا يغلِبَنَّكَ الشَّرُّ بل اغْلِبِ الشَّرَّ بالخيرِ ". واعرف أن الذي يحتمل هو الأقوى. أمَّا الذي لا يستطيع أن يحتمل فهو الضعيف. لأنه لم يقدر على ضبط نفسه.

«« لا تُطالب الناس بمثاليات لكي تستطيع التعامل معهم. نعم. بل تعامل معهم كما هم، وليس كما ينبغي أن يكونوا. وإلاَّ فرُبَّما يأتي عليك وقت تختلف مع الجميع. إننا نقبل الطبيعة كما هى: الفصل الممطر، والفصل العاصف، والفصل الحار ... دون أن نطلب من الطبيعة أن تتغيَّر لترضينا ... فلتكن هذه معاملتنا لِمَن نقابلهم من الناس. إنهم ليسوا كلهم أبراراً أو طيبين. كثيراً منهم لهم ضعفات، ولهم طباع تُسيطر عليهم. إنهم عيِّنات مختلفة، وبعضها مثيرة. فلتأخذ منهم بقدر الإمكان موقف المتفرِّج وليس موقف المنفعل، وعاملهم حسب طبيعتهم بحكمة. ولكن احترس من مُعاشرة الأشرار الذين قد يجذبونك إلى الخطيئة معهم. إن المعاشرات الرديئة قد تفسد الأخلاق الجيدة.

«« النقطة الأخيرة هى السلام داخل النفس، أي السلام داخل القلب والفكر. والذي عنده مثل هذا السلام، يظهر أيضاً هذا السلام في ملامح وجهه. فنجد أن ملامحه مملوءة سلاماً. ويستطيع أن يُشيع السلام في نفوس الآخرين. وفي وجوده، يكون الجو مملوءاً سلاماً. ويكون مملوءاً أيضاً اطمئناناً وذلك بسبب عمل اللَّه معه، وعمل اللّه فيه.

        أمَّا الذي يقد سلامه الداخلي، فإنه يقع في الاضطراب والخوف والقلق والشكّ.