كان يجول يصنع خيراً

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

7/1/2012

جريدة الأهرام

 

 

        أولاً، وقبل أن أبدأ هذا المقال، أُحب أن أهنئكم جميعاً بعيد الميلاد المجيد، وببدء عام جديد، راجياً لكم عيداً سعيداً، وعاماً مملوءاً بكل خير، لكم ولمصر كلها... في هذه الأيام التي يسود فيها القلق والتخوُّف. ويتساءل الكل من جهة بلادنا العزيزة المحبوبة: إلى أين؟!! والجواب: إلى كل خير وبركة... بمشيئة اللَّه الذي لا يشاء إلاَّ الخير والبركة، والذي رحمته تتقدَّم كل أعماله، وكل أعمال مشيئته. سبحانه الذي نحتمي برحمته كل حين.

«« وأُهنئكم أيضاً ـ يا إخوتي وأحبائي ـ بعيد ميلاد هذه السنة بالذات ـ الذي لأول مرة خلال سنوات كثيرة مضت ـ تزدحم فيه الكاتدرائية... بأكبر عدد من القيادات الإسلامية بكافة إتجاهاتها يهنئون الأقباط بعيدهم، ويضعون أيديهم في أيدينا فرحاً في وحدة المشاعر. ويقولون: كلنا واحد في حُب مصر.

        هذا مع الحضور المُميَّز والمُشرِّف لأعضاء المجلس العسكري، الذي يعمل من أجل حماية مصر وإستقرارها. هذا الذي نُصلِّي من أجله جميعاً أن يديمه اللَّه في قوة وجبروت، مستمراً في حماية مصر من الداخل والخارج أيضاً.

«« أمَّا عن ميلاد السيد المسيح له المجد، فقد وردت عنه في الكتاب المقدس أنه " كان يجول يصنع خيراً، ويشفي كل مرض وضعف في الشعب... ". نعم، لقد كان هذا هو أسلوب السيد المسيح في العمل، طوال مدة رعايته للكل على الأرض، وبخاصة للمحتاجين والفقراء والمساكين والذين ليس لهم أحد يذكرهم...

        نعم، كان يجول يُشبع الكل من رضاه. يهتم بالكل. وهو مُعين مَن ليس له مُعين، ورجاء مَن ليس له رجاء.

«« كان يهتم جداً بالفقراء والمحتاجين. بالجياع والعطاش والعُراة والمسجونين وأمثالهم. ويعتبر إهتمام الشعب بهؤلاء كأنه موجَّه له شخصياً. فإن سألوه ـ كما ورد في مت 25 ـ " متى رأيناك يارب جائعاً أو عطشاناً أو عُرياناً، أو سجيناً أو ما أشبه... ". فيجيبهم قائلاً: " الحق أقول لكم: مهما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم ". وهكذا شجَّع الجميع بالعناية بالفقراء والمحتاجين الذين اعتبرهم إخوته مهما كانوا من الأصاغر في نظرنا.

«« وكان يهتم أيضاً بالضعفاء والمساكين روحياً، أعني بالخطاة وبالعشارين أيضاً. كان أسلوبه الروحي في معاملة هؤلاء: ليس الإنتقام منهم أو عقوبتهم بسبب إرتكابهم للخطايا، بل بالحري إنقاذهم من تلك الخطايا... وهكذا حينما لاموه على جلوسه مع العشارين والخطاة، أجابهم بعبارته الشهيرة المملوءة عمقاً وحُبَّاً: " لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى ". إذاً هؤلاء الخطاة، هم مرضى، ويحتاجون إلى طبيب، لكي يعالجهم، وليس ليُعاقبهم. وهنا يسأل البعض: هل السيد المسيح لم يُعاقب إطلاقاً، ولكن في حُب. مجهّر سوطاً وطرد الباعة الذين أحضروا بهائمهم معهم. ووبَّخهم قائلاً: " بيت أبي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص ". وفي هذا قُلتُ:

 

يا قوياً ممسكاً بالسوط في

 

كفه والحب يدمي مدمعك

 

«« نعم، كان الحب هو أسلوب السيد المسيح، حتى في معاملة الخطاة. وهنا أذكر قول أحمد شوقي أمير الشعراء:

 

وُلِدَ الحب يوم مولد عيسى ...

 

 

        وهنا أيضاً أذكر تعامله في قصة المرأة الخاطئة التي ضُبطت في ذات الفعل. وكيف أتى بها الكتبة والفريسيون الذي اعتبروا أنفسهم أمناء على تطبيق الشريعة وأذلوها. وسألوه: " بماذا تحكم على هذه المرأة التي تأمر شريعة موسى برجمها؟ ". وهنا قال لهم في عُمق: " مَن كان منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر ". وفي نفس الوقت، بدأ بطريقة ما يظهر لكل منهم خطاياه. فهربوا جميعاً. فقال السيد المسيح للمرأة: " أين الذين أدانوكِ؟ هل لم يبقَ منهم أحد؟! وأنا أيضاً لا أدينك. اذهبي ولا تعودي تُخطئي أيضاً ". وهكذا أنقذ المرأة من الرجم ومن المذلة...

«« وبنفس أسلوب المحبة تعامل مع زكا رئيس العشارين وقتذاك. الذي كان قصيراً وتسلَّق شجرة وقتذاك. فقال له السيد المسيح: " يا زكا اسرع وانزل. اليوم سأتعشَّى في بيتك ". فلما لامه الكتبة والفريسيون: كيف يدخل في بيت رجل خاطئ؟! أجابهم قائلاً: " إن ابن الإنسان جاء يطلب ويُخلِّص ما قد هلك ". بهذا الحُب أنقذ زكا العشار الذي قال تبعاً لذلك: " ها أنا تركت نصف أموالي للفقراء. وإن كنت قد وشيت بأحد، أرد أربعة أضعاف ". وبهذا الأسلوب تاب زكا.

        وبمثل هذا الأسلوب الرقيق الهادئ تابت المرأة السامرية وآمنت، وكانت سبباً في إيمان بلدتها... هذه الخاطئة التي قال السيد المسيح لها في رقة دون أن يجرحها: " حسناً قلتِ أنه ليس لكِ زوج، لأنه كان لكِ خمسة أزواج، والذي معكِ الآن ليس هو لكِ ". وطبعاً كلمة (أزواج) هنا هى عبارة رقيقة. فهم لم يكونوا أزواجاً. ولكن السيد المسيح لم يستخدم معها العبارة الدقيقة المحرجة، حرصاً على مشاعرها رغم خطيئتها!!

«« السيد المسيح كان أيضاً رجلاً شعبياً. يعيش باستمرار مع الشعب. كان مُعلِّماً يعمل كثيراً في التعليم. وغالباً ما كانوا يدعونه " يا مُعلِّم "، " أيها المُعلِّم الصالح ". ومع ذلك لم يكن له مكان للتعليم. بل كان يُعلِّم أحياناً وهو جالس على الجبل، أو وهو سائر في الحقول، أو على شاطئ البحيرة. وعموماً لم يكن له بيت يقيم فيه. وقيل عنه " لم يكن له أين يسند رأسه " والذين كانوا يتبعونه من تلاميذه الصيادين الفقراء، كانوا يسيرون وراءه، وهم لا يعلمون إلى أين يمضوا!!

«« كان بين الناس يسلك بالتواضع والبساطة. وكان يعاشر فقراء الناس، وليس كبار القوم منهم. وقد نشأ في بلدة فقيرة هي بيت لحم، من أم فقيرة هي القديسة العذراء مريم، التي كانت تحيا في بيت نجار. ولعل السيد المسيح قد تعلم هذه الصناعة منه في شبابه المبكر.

        كان السيد المسيح يتعامل مع الناس بكل بساطة وشعبية يتعامل مع الكل. حتى مع الأطفال الذين كانوا يحيطون به، متمتعين بمحبته. والذين قال عنهم لتلاميذه " إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت الله ". يقصد مثل الأطفال في برائتهم وبساطتهم وصدقهم، وليس في عقليتهم طبعاً.

«« المسيح أيضاً في تواضعه وبساطته، لم يجعل الكنائس تبنى باسمه، ولا حتى الأناجيل تحمل اسمه.