الرحمة والقسوة

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

14/8/2011

جريدة الأهرام

 

 

        إنَّ الرحمة هى أوَّل ما يُركِّز عليه إخوتنا المسلمون من صفات اللَّه عزَّ وجلّ. فأوَّل آية في الفاتحة هى " بسم اللَّه الرحمن الرحيم ". وهذه قد تكرَّرت في آيات قرآنية كثيرة. وبها يبدأ المُسلم خطابه أو مقاله مُتذكِّراً كل يوم رحمة اللَّه.

        ويقول أيضاً: " رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " [118 المؤمنين]، " وأنت أرحم الراحمين " [151 الأعراف]، ويقول أيضاً: " إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [23 ؛ 149 الأعراف].

        ولكنه يعرف في نفس الوقت أنه: " لا عَاصِمَ اليومَ مِن أمرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ " [43 هود].

        إذن كما أنَّ اللَّه رحيم، ينبغي أن يكون البشر رُحماء.

«« نفس الكلام عن الرحمة موجود في المسيحية. ولذلك فالمسيحي يقول في بدء صلاته كل يوم: " ارحمني يا اللَّه كعظيم رحمتك " ( مزمور 51 ). ويقول في نهاية الصلاة: " ارحمنا يا اللَّه ارحمنا " ( مزمور 123 ). ويقرأ في الإنجيل: " طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون "، " طوبى للودعاء "، " طوبى لصانعي السلام " ( متى 5 ).

        ومن أهمية الرحمة يقول الرب في الكتاب المقدس: " أُريد رحمة لا ذبيحة " ( هوشع 6 ). ويقول أيضاً:" لا تنتقموا لأنفسكم ... إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه " ( رومية 12 ). ويقول عن الأشرار: " هم قُساةٌ لا يرحمون " ( إرميا 51 ).

        إذن الأمر واحد. اللَّه رحيم، ويريدنا أيضاً أن نكون رُحماء. أمَّا القُساة فهُم الذين لا يرحمون.

«« حقاً إن رحمة اللَّه فوق الوصف، لا مثيل لها. فإلهنا في حنوه واشفاقه، يُقدِّر ظروف الإنسان وطبيعته الضعيفة، فيرحم. إنه لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب أثامنا، لأنه يعرف أننا تراب نحن، تثيره الريح فيتحوَّل إلى غبار في الجو. ويصبر اللَّه عليه تهدأ الريح فيستقر.

«« أمَّا البشر فإنهم قُساة. ولذلك ما أجمل وأعمق ما قاله داود النبي: " أقع في يد اللَّه، ولا أقع في يد إنسان، لأن رحمة اللَّه واسعة ". ولعلَّ هذا يشبه ما قاله الشاعر العربي:

 

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى

...

وصوَّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

 

        إنه أمر مُحزن أن الإنسان يكون أحياناً كالوحوش، حينما يغضب، أو ينتقم ويأخذ بالثأر.

        حقاً إن قسوة الإنسان معروفة منذ البدء، حين قام أخو هابيل عليه وقتله.

        للأسف كثيراً ما يكون الإنسان متعطِّشاً إلى الدَّم! يطلب دم غيره، ويفرح به إن سُفِكَ. هناك قوة غاضبة وحاقدة داخل نفسه تريد أن تتنفس! ولا يهمها كيف!

«« هناك نوع من الأمراض النفسية يُسمَّى ( السادية ) ويعني التَّلذُّذ بآلام الغير. وهنا تظهر معاملة الذين يثأرون من غيرهم. فيعذبون عدوهم بأنواع عذابات كثيرة قبل أن يقتلوه. وما أبشع قول شخص يعزم أن يقتل عدوه. فيقول له في غيظ وقسوة " أريد أن أشرب من دمك!! ". أليس هذا لوناً من الوحشية يعيش فيها القُساة!

        والعجيب أن مِثل هذا القاتل يفتخر بما فعله شاعر بقوته وقدرته.

        يا أخي إنك إن قتلت مَن يعاديك، تحسب نفسك قوياً! ولكنك إن عفوت عنه فإنك تكون نبيلاً. والنُّبُل بلا شكّ أسمى وأعلى وأرقى خلقاً.

«« إن وجود الدم في الإنسان هو علامة حياته. وهكذا بسفك دمه تنتهي حياته. ولما كانت الحياة بيد اللَّه ( فهو الذي يُحيي ويُميت ) إذن فاللَّه هو وليّ الدم. لا يسمح أبداً بأن يُسفك الدم عبثاً أو ظُلماً. وقد قال في الكتاب المقدس: " سافك دم الإنسان، بيد الإنسان يُسفك دمه ". أي بيد الإنسان الموكل له من اللَّه أن يسفك دم سافك الدم، أو يأمر بذلك.

        وحفاظاً على دم الإنسان، أمر اللَّه قائلاً: " لا تقتل "، ووضع اللَّه الرحمة في قلوب البشر لو استجابوا هُم لهذه الرحمة. أمَّا إذا لم يستجيبوا وقتلوا غيرهم، فإنَّ اللَّه سوف يُطالبهم بدم أخيهم المقتول منهم. ويقول للقاتل: " صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض ".

        بل أكثر من هذا فإن اللَّه الرحيم أمر بالرفق بالحيوان وعدم أذيَّته. وهكذا توجد جمعيات للرفق بالحيوان. ويوجد أطباء يتخصصون في الطب البيطري للعناية بالحيوان، ومعالجته إذا مرض. ومعروف ضمناً أن الإنسان الذي يشفق على حيوان، فإن مشاعره لا تسمح له بإيذاء إنسان.

«« ما أشد قسوة بعض المتديِّنين في معاملتهم للخطاة، أو مَن يظنونهم خطاة، بعبارات جارحة. ويظنون أن هذه غيرة مقدسة وشهادة للحق! وما أشد عنف بعض الصحف التي تهاجم الغير، وبخاصة الذين لا يملكون الدفاع عن أنفسهم. فتتناولهم بكل سخرية وإهانة وتشهير ... وإن كان اللَّه سبحانه قد أمرَّ بعدم القتل، فهناك نوع آخر من القتل وهو القتل المعنوي الذي يقتل الإنسان في سمعته ويُحطِّمه بذلك. وكذلك القتل النفسي عن طريق الإذلال والإهانة والتشهير والتحطيم الإجتماعي وجرح الشعور والاحتقار والإهانة. وكل ذلك يكون مثل سُم يدخل داخل النَّفس. وإني أعجب من الذين يفرحون جداً بنشر الفضائح أيَّاً كانت ... فضائح مالية أو إجتماعية أو جنسية ويرون ذلك لوناً من التفوُّق الصحفي!!

        إنَّ اللَّه الذي ستر غالبية الناس، ولم يكشف كل ضعفاتهم أمام الآخرين، هو نفسه يُطالب البشر الذين يكشفون غيرهم ويعاملونهم بالخشونة والعُنف وبالقسوة والتعالي، يطالبهم جميعاً بالرفق بغيرهم. وعدم المحاولة بتجريح الغير، وكذلك بالبُعد عن الطريقة المنفِّرة في معاملة الآخرين ... مهما قدَّموا تبريرات كثيرة لِمَا يفعلون.