التمركز حول الذات ...

وإنكار الذات

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

25/12/2011

جريدة الأهرام

 

 

        لا تظنوا أيها الأخوة الأحباء أن عبادة الأصنام قد تلاشت من الأرض. فهناك صنم كبير يكاد أن يعبده الكل، وهو الذات...

        فكل إنسان مشغول بذاته، مُعجب بذاته. يضع ذاته في المرتبة الأولى من الأهمية. أو في المرتبة الوحيدة من الأهمية. يُفكِّر في ذاته. ويعمل من أجل ذاته. ويهمه أن تكبر هذه الذات، بل تصير أكبر من الكل. ويهمه أن تتمتَّع هذه الذات بكل اللذات، بأي ثمن أو بأي شكل.

«« هذا هو التمركز حول الذات. وفيه يختفي الكل، وتبقى الذات وحدها. فيه ينسى الإنسان غيره من الناس، أو يتجاهلهم، لكي تبقى الذات وحدها في الصورة ... ويكون إذا فكر هذا الشخص في غيره من الناس، يكون تفكيره فيهم ثانوياً، في المرحلة التالية لذاته. أو قد يكون تفكيراً سطحياً، أو تفكيراً عابراً.

«« وهذا الشخص المتمركز حول ذاته: إذا ما أحب أحداً آخر، فأنه يحبه من أجل ذاته. ويكون مَن أحبه مجرد خادم لذاته. أو مَن يشبع ذاته في ناحية ما ... يحب مثلاً مَن يمدحه، أو مَن يقضي له حاجة ما، أو مَن يشبع له شهواته، أو مَن يُحقِّق له رغبة ما. فهو في الحقيقة يُحب ذاته لا غيره. وما حُبّه لغيره سوى وسيلة يُحقِّق بها محبته لذاته.

«« لذلك لا مانع عند هذا الشخص، أن يفخر بمثل هذا الحب إذا اصطدم بذاته ورغباته! ولعلَّ هذا يُفسِّر لنا الصداقات التي تنحل بسرعة، إذا ما اصطدمت بكرامة ذاتية أو غرض ذاتي ... ولعلَّ هذا يُفسِّر لنا أيضاً الزيجات التي تنتهي بالطلاق، أو إلى الانفصال ... بينما يظن البعض أنها قد بدأت بُحب، أو بُحب عميق أو عنيف!! قطعاً إن ذلك لم يكن حباً بمعناه الحقيقي. لأن الحب الحقيقي فيه تضحية واحتمال وبذل وعذر للآخرين. والمحبة الحقيقية تحتمل كل شيء.

«« إن مثل هؤلاء الأشخاص كانوا يحبون ذواتهم فيما هم يتغنون بمحبتهم لغيرهم! كان في محبتهم عنصر الذاتية. لذلك ضحُّوا بهذه المحبة على مذبح الذاتية أيضاً. إنما المحبة تصل إلى أعماقها حينما تتكلَّل بالبذل ... أي أن المُحب الحقيقي هو الذي يُضحِّي من أجل أحبائه بكل شيء، ولو أدَّى الأمر إلى أن يُضحي بذاته. وكما قال الإنجيل: " ليس حُبٌّ أعظم من هذا، أن يُضحي أحد بنفسه عن أحبائه ".

         أمَّا المحبة التي تأخذ أكثر مِمَّا تُعطي، فهى ليست محبة حقيقية، إنما هى محبة للذات, وهى أيضاً تحب ما تأخذه، ولا تحب مَن تأخذ منه ... لذلك فإن محبة اللَّه لنا هى المحبة المثالية، لأنها باستمرار تُعطي دون أن تأخذ. ولهذا أيضاً فإن محبة الأم لطفلها هى محبة حقيقية، لأنها باستمرار تُعطي، وباستمرار تبذل.

«« ولكن لعلَّ إنساناً يسأل: ولماذا لا نحب ذواتنا؟ وأيَّة خطيئة في ذلك؟! ومَن من الناس لا يحب ذاته؟! إنها غريزة في النفس.

        نعم، جميل منك أن تحب نفسك. على أن تحبها محبة روحية. تحب ذاتك من حيث أن تهتم بنقاء هذه الذات وقداستها وحفظها بلا لوم أمام اللَّه والناس. وتحب ذاتك من حيث اهتمامك بمصيرها الأبدي، ونجاتها من الدينونة الأخيرة حينما تقف أمام منبر اللَّه العادل، لتُعطي حساباً عن أعمالها وعن أفكارها ونيَّاتها ومشاعرها. هذا هو الحب الحقيقي للذات. الحب الذي يُطهِّر الذات من أخطائها ومن نقائصها، ويلبسها ثوباً من السمو والكمال.

«« وهناك شرط آخر للمحبة الحقيقية للذات، وهو أن الإنسان في محبته لذاته يحب جميع الناس أيضاً، ويكون مستعداً أن يُضحِّي من أجلهم بكل ما يملك، ولو ضحَّى بذاته أيضاً...

        فلا يجوز لك أن ترتفع على جماجم الآخرين، ولا أن تبني سعادتك على شقائهم، أو تبني راحتك على تعبهم! لذلك ضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتك، وفضِّل خيرهم على خيرك. وعليك أن تُضحِّي من أجل الناس، سواء شعروا بهذه التضحية أو لم يشعروا، وسواء شكروا عليها أو لم يشكروا.

«« لذلك هناك فضيلة عُظمى وهى إنكار الذات. فالإنسان النبيل لا يُزاحم الناس في طريق الحياة. بل يفسح لهم مجالاً لكي يعبروا، ولو سبقوه! إنه يختفي لكي يظهر غيره. ويصمت لكي يتكلَّم غيره. ويمدح غيره أكثر مِمَّا يمدح نفسه. ويُعطي مكانه ومكانته لغيره. وبذلك كما يسعد غيره، يسعد نفسه أيضاً ... إنه دائم التفكير في غيره، ومحبة غيره وصالح غيره، وأبدية غيره وقداسة غيره ... أمَّا ذاته فيضعها آخر الكل، أو خادمة للكل. إنه يفرح لأفراح الناس، ولو كانت الآلام تحيط به من كل ناحية. وإن أصابهم ألم لا يستريح هو، وإن كانت وسائل الراحة تحت قدميه ... إنه شمعة تذوب لكي تضيء للآخرين ... وفي إنارتها للناس، لا تفرح بأنها صارت نوراً. إنما تفرح لأن الآخرين قد استناروا. ذاتها لا وجود لها في أهدافها.

«« إن أنجح الإداريين في العالم هُم المنكرون لذواتهم. وأكثرهم فشلاً هم الأنانيون.

        إن أنجح إداري هو الذي يُعطي فرصة لكل إنسان أن يعمل. ويشرف على الكل في عملهم. ويبدو كما لو كان هو لا يعمل شيئاً، بينما يكون هو مركز العمل كله. ويكون محبوباً في العمل. لأنه كلما نجح العمل، يتحدَّث عن مجهود فلان وفلان، وينسب النجاح إلى كثيرين غيره وينكر ذاته ... إن المُنكر لذاته يهمه أن ينجح العمل أيَّاً كانت اليد التي تعمله. أمَّا المتمركز حول ذاته فلا يهمه إلاَّ أن يتم النجاح على يديه، ولو أدَّى الأمر إلى تعطيل العمل كله!!