محبة المديح والكرامة

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

18/12/2011

جريدة الأهرام

 

 

        التعرُّض لمديح الناس شيء، ومحبة هذا المديح شيء آخر. فقد ينال الإنسان مديحاً من الآخرين ولا يُخطئ. ولكنه إذا أحب هذا المديح واشتهاه، وأصبح جزءً من رغباته. فحينئذ يكون قد أخطأ. وهكذا نقول: إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء ... كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا.

«« على أن القديسين في كل جيل كانوا بقدر إمكانهم يهربون من المديح أيَّاً كان مصدره. سواء أتاهم المديح من الناس، أو من الشيطان، أو من داخل أنفسهم. وبعضهم كان يتمادى في هذا الهروب. ويبعد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته. حتى وصل الأمر إلى أن بعضاً من هؤلاء القديسين المتواضعين كانوا يتحدثون عن نقائصهم وأخطائهم أمام الناس. ولا يدافعون عن خطأ يُنسب إليهم. حتى إن لم يكن فيهم.

«« أمَّا محبو المديح فإنهم أنواع ودرجات: وأقلهم خطئاً هو الذي لا يسعى إلى المديح. ولكنه إذا سمع مديحاً فيه من غيره، فإنه يُسرّ بذلك في داخله ويبتهج. وقد يبدو صامتاً لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات.

«« نوع آخر، هو حالة الشخص الذي يبتهج في داخله بسبب ألفاظ المديح الذي يسمعها. ثم يحاول أن يستزيد منها. كأن يقول عبارات تجلب له مديحاً جديداً. أو يجر الحديث إلى موضوعات مشرَّفة له. أو يتمنى عند سماع المديح بألفاظ مُتضعة تجلب له المزيد من الثناء.

«« نوع ثالث هو حالة الشخص الذي إذ يشتهي المديح، يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس لكي ينظروه فيمدحوه! وهذا النوع هاجمه السيد المسيح وقال عنه إنه قد استوفى أجره على الأرض ... ودعى الناس أن يعملوا الخير في الخفاء. واللَّه الذي يرى في الخفاء يجازيهم علانية.

        ولا شكّ أن الذين يعملون البِرّ في الخفاء، إنما يفعلون الخير حُبَّاً في الخير، وليس حباً في المديح.

«« هناك نوع رابع لمحبة المديح، وهو أصعب من كل ما سبق. وهو حالة الشخص الذي لا يشبع مديح بعض الناس له، فإذا به يتطوَّع لمديح نفسه! ويتحدَّث عن أعمال فاضلة له ... وبهذا يقع في الزهو والتباهي والخيلاء ... وقد يتمادى في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه.

«« نوع خامس أسوأ مما سبق. وهو حالة الشخص الذي يشتهي المديح، وينتظر. وإذ لا يصل إليه، يكره مَن لا يمدحه، ويعتبره عدواً قد قصّر في حقه، فلم يُقدِّره حق قَدره، ولم يعترف بفضله ... وقد يتمادى في هذا الأمر، فيتضايق أيضاً مِمَّن يمدحه، ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره، وليس بالأسلوب الذي يشبع فيه نهمه إلى العظمة والفخر.

«« مثل هذا الشخص الذي يكره مَن لا يمدحه، ماذا تراه يفعل بمن ينتقده؟! إنه ولا شكّ لا يمكن أن يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه. وطبعاً لا يقبل التوبيخ ولا الافتقاد حتى ممن هو أكبر منه كأبيه بالجسد، أو أبيه الروحي، أو أي معلم أو مرشد أو رئيس! ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه إليه، كأنه لون من الاضطهاد، يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب.

«« على أن أسوأ درجة لمحبة المديح في نظري، هى حالة الشخص الذي من فرط محبته للمديح، يريد أن يحتكره لنفسه فقط! فلا يطيق أن يسمع مدحاً لشخص آخر. وإلاَّ فإنه يكره المادح ويحسد الممدوح! وهكذا يعتبر من يمتدح غيره، بأنه منحرف عن طريق صداقته. كما لو يشبهه بحالة زوجة تُحب رجلاً آخر غير زوجها! ومحب المديح هذا يحاول أن يُقلِّل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحاً له. وربما يتهمه ظالماً ويسئ إلى سمعته. وكل ذلك لكي يبقى هو وحده، ولا شريك له، في إعجاب الناس.

«« من كل ما سبق نرى أن محبة المديح تقود إلى رذائل عدة نذكر من بينها: فقد تقود مَن يحب المديح إلى الوقوع في الرياء، محاولاً أن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير حقيقته الداخلية، وقد يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها تماماً كأن يتظاهر بالصفح وهو حاقد، أو بالحب وهو يدس الدسائس. أو يتظاهر بالصوم وهو مفطر.

«« وقد يقع محب المديح في الغضب وعدم الاحتمال. فيغضب من كل مَن يُوجِّه إليه نقداً، أو يُخطِئ له رأياً. كما يغضبه مَن يُفضِّل أحداً عليه. وتكون الكرامة صنماً يتعبَّد له محبو المديح في كل حين. وقد تراه ثائراً في أوقات كثيرة يصيح صارخاً: كرامتي كرامتي.

«« وقد يقع مُحب المديح في الحسد وفي الكراهية. ولا يكون قلبه صافياً تجاه مَن يظن أنه ينافسه، أو في مَن يظن فيه أنه نال كرامة أو منصباً أو مديحاً هو أولى به منه! وقد تعذبه الغيرة والحسد بسبب كل هذا. وقد يجره الحسد إلى أخطاء أخرى عديدة.

«« وقد يقع محب المديح في حالة عدم استقرار. فلا يثبت على حاله. إنما يختار لنفسه في كل مناسبة الوضع الذي يجلب له مديحاً في نظر مَن يقابله حتى لو كان في عكس موقف سابق له... وكثيراً ما يقع محب المديح في الكذب أو المبالغة. وكثيراً ما يغطي أخطائه أو نقائصه بأكاذيب أو ألوان من التحايل، أو ينسب أخطاؤه إلى غيره، ويظلم غيره لكي يتبرَّر هو. أو يشتهي موت غيره مما نال مركزاً يشتهيه هو.

«« وعموماً فإن محب المديح يخسر محبة الناس. لأن الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم على نفسه في الكرامة، والذي يختفي لكي يظهروا هم، والذي يمدح كل أحد، ويحب كل أحد، ولا يكره منافساً له.

        ومُحب المديح لا يخسر الناس. إنما يخسر أيضاً أبديته. ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل على هذه الأرض الفانية. وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها، يُبدِّدها بمحبة المديح.

        ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين، التي تضلِّله برؤى وأحلام كاذبة وبظهورات خادعة.