الصلاح والإصلاح

ينبغي أن ينبُعا من الداخل

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

15/5/2011

جريدة الأهرام

 

 

        الحياة الروحية ليست مُجرَّد مُمارسات تعبدية تُعمل بالجسد. إنما المقياس الروحي لها، يتوقف على روحانية الإنسان من الداخل، ومن حيث دوافعه ونيَّاته ومشاعر قلبه وحالة فكره. وقد رفض الرب كل عبادة تُقدَّم إليه دون أن تكون نابعة من قلب نقي. وقال عن اليهود في العهد القديم: " هذا الشعب يُكرمنى بشفتيه. وأمَّا قلبه فمُبتعد عني بعيداً! ".

«« إذن الفضائل تبدأ في القلب، ومن القلب تخرج، وتظهر في الأعمال الفاضلة. ولكن كل عمل فاضل، لا علاقة له بالقلب، لا يُحسب فضيلة على الإطلاق.

        كما أن الفضيلة التى لا تتأسَّس على محبة القلب لها، لن تبقى ولا تستمر. وسنضرب بعض أمثلة:

«« فتاة مثلاً: سمعت عظة عن الحشمة والأزياء والزينة. فتأثَّرت بها، وبدأ تغيير مظهرها الخارجي. ولكنها من الداخل لم تتغيَّر! ولم تتأسس في داخلها العفة الحقيقية ... هذه قد لا تستمر في مظهرية هذه ( الحشمة ) التي لم تنبع من قلبها. وقد تعود!

        العفة في جوهرها هى إحترام المرأة لجسدها، وعدم عرضه على الغير كوسيلة لإغرائهم وتحريك الشهوة فيهم. والعفة أيضاً هى لون من الخشية أمام اللَّه ... وإن كنت أقول هذا للفتاة العادية، فماذا أقول إذن للمُمثِّلات المحترفات لتمثيل أدوار الإغراء؟! على كل هؤلاء أن يُفكِّرن داخل أنفسهنَّ عن مصيرهِنَّ جميعاً في الأبدية من جهة سقوطهِنَّ ومن أسقطنه من الرجال.

«« شخص آخر يقع في الغضب والنرفزة. ودائماً يضج ويثور ويعلو صوته، ويفقد أعصابه، ويفقد مَن يثور عليهم. هل من المعقول أن يقول مثل هذا الشخص: سوف أُدرِّب نفسي على هدوء الصوت وهدوء الحركات. ويبدو هادئاً من الخارج لفترة، بينما يكون قلبه من الداخل في آتون من نار مشتعلاً غضباً؟! كلا، بل عليه أن يبحث عن أصول النرفزة والغضب في داخله، ويُعالجها .. ربما يكون السبب هو كبرياء داخلية لا تحتمل كلمة معارضة، أو كلمة توجيه أو نقد، مع محبته للكرامة والمديح. أو قد يكون سبب غضبه، هو أنه يريد تنفيذ رأيه أيَّاً كان أو تنفيذ رغباته. أو قد يكون سبب الغضب هو كراهيته لِمَن يصطدم به، فأصبح لا يحتمل منه شيئاً، بل قد لا يحتمل مُجرَّد رؤيته، فيثور ...

        أيَّاً كان السبب، عليه أن يُعالجه داخل نفسه أولاً. لأن مُجرَّد الظهور بهدوء خارجي لا ينفع. بل عليه أن يكتسب في داخله فضائل الإحتمال والوداعة ومحبة الآخرين، ولوم نفسه بدلاً من لوم غيره. حينئذ ينجح في روحياته.

«« مِثال آخر: مريض ارتفعت درجة حرارته: أيمكنك معالجته بكمادات من الثلج، أو ببعض مخفضات الحرارة؟! أم الأصح هو البحث عن السبب الداخلي الذي أدَّى إلى ارتفاع درجة الحرارة ومعالجته؟ رُبَّما كان السبب إلتهاباً في اللوز، أو بؤرة صديدية في أحد أعضاء الجسم من الداخل، أو غير ذلك. وإن عرفنا السبب الحقيقي، حينئذ يمكن العلاج على أساس سليم.

        يا إخوتي، لا يمكن إصلاحكم لأنفسكم مُجرَّد إصلاح خارجي.

«« هناك أيضاً مَن يُفكِّر أن يحيا حياة نقية مع اللَّه في ظروف خاصة، أو في مناسبة مُعيَّنة. فقد يكون تحت تأثير مؤقَّت يحدث، أو عظة عميقة قد سمعها أو قراءة روحية تركت فيه أثراً شديداً. أو نتيجة لمشكلة حاقت به، فقال: " إن أنقذتني يارب، فسوف أتبعك كل حياتي ". وأنقذه اللَّه، فتبعه. ولكن ما أن يزول هذا المؤثِّر الخارجي، حتى يرجع كما كان ... وكذلك مَن يُصمِّم أن يحيا حياة جديدة بمناسبة عام جديد في حياته، أو أيَّة مناسبة أخرى مفرحة.

        إن التدين عن أمثال هؤلاء هو تدين مناسبات، وليس عن إيمان حقيقي وعُمق في حياة الفضيلة. هو مُجرَّد تأثرات خارجية، وإنفعالات تزول بعد حين ... إذن لكي يثبت الإنسان في حياة البِرّ، وفي علاقة دائمة مع اللَّه، ينبغي أن يبني بِرّه على أساس داخل القلب.

«« وأحياناً يظن بعض رجال المجتمع أن الإصلاح قد يأتي عن طريق العقوبة. ولكن العقوبة هى عامل خارجي، ولا تصلح مع كل الحالات ولا مع كل مراحل السن.

        حتى السجن مثلاً الذين يقولون عنه إنه: " تدريب وتهذيب وإصلاح ". نقول نعم من جهة التأديب. أمَّا من جهة التهذيب والإصلاح، فأمر مشكوك فيه. فقد يكون الإصلاح بالنسبة إلى الآخرين الذين يخافون نفس المصير. أمَّا بالنسبة للسجين، فنادراً ما يستفيد من السجن تهذيباً وإصلاحاً. على العكس قد يمتلئ قلبه بالحقد على مَن تسبَّبوا في سجنه، وعلى القسوة التي عومل بها. ويمتلئ بالسخط من جهة سمعته، وما هو فيه من ضيق، وما ينتظره بعد الخروج من السجن. أين هو الإصلاح إذن؟! لا يوجد إصلاح إلاَّ الذي ينبع من القلب.

«« إهتموا إذن جميعاً بأن تبنوا حياتكم الروحية من الداخل، من عُمق القلب في صلته مع اللَّه.