محبة خاطئة للنفس تضرها

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

21/3/2010

جريدة الأهرام

 

 

      كل إنسان في الدنيا يحب نفسه، ولا يوجد أحد لا يحب نفسه، وليست محبة النفس خطيئة. ولكنها تصبح كذلك إذا كانت محبة خاطئة أو تقود إلى خطأ. وهناك حروب روحية تُسمَّى حروب الذات، أو عبادة الذات، التي يتمركز فيها الإنسان حول نفسه ويقول أريد أن أبني نفسي، أو أن أُحقِّق ذاتي. وللأسف يبني نفسه بطريقة خاطئة.

«« من المحبة الخاطئة للنفس، المحبة الخاصة باللذَّة والمُتعة. منها لذة الحواس التي تقود إلى الشهوة وإلى الخطيئة. وفيها قد يفتخر شخص ويقول: " مهما اشتهته عيناي لن أمسكه عنهما ". ويقود ذلك إلى كل أنواع المُتع العادية والضارة.

      ومن أمثلة اللذة الخاطئة، ما يقع فيه البعض من ملاذ الجسد، أو المخدرات، أو التدخين، أو كل ما ينسيه عن نفسه. والواقع أنها ليست محبة حقيقية للنفس، التي تأتي عن طريق اللذة والمتعة، مادامت متعة خاطئة.

«« ومن المحبة الخاطئة للنفس، المحبة الخيالية. وفيها لا يستطيع الشخص أن يُمتِّع نفسه عملياً، فيسبح بفكره في تصورات إسعادها. وتكون متعته بالخيال أقوى من المتعة الحسية. لأن الخيال مجال واسع لا يقف عند حد. ويتصوَّر فيه الإنسان تصورات لا يمكن أن تحقق في الواقع. وتحصل له بذلك سعادة وهمية.

      ومن هذا ما يسمونه بأحلام اليقظة. فكل ما يريد الشخص أن يمتع به نفسه، يغمض عينيه ويتخيله. ويؤلف حكايات وقصصاً عن مُتعة لا وجود لها في عالم الحقيقة. ويقول لنفسه سأعمل وأعمل، وسأصير وأصير... وقد يستمر في هذا الفكر بالساعات، ورُبَّما بالأيام. ويستيقظ لنفسه، فإذا هو في فراغ وقد أضاع وقته! وعلى رأي المثل العامي: " المرأة الجوعانة تحلم بسوق
 العيش ". ومثال آخر التلميذ الذي لن يستذكر دروسه، ولم يستعد عملياً للإمتحان. وإنما يجلس إلى جوار كتبه، ويسرح في الخيال: يتخيل أنه نجح بتفوق كبير، وانفتحت أمامه جميع الكليات، وصار وارتفع وارتقى وتخرَّج ... ثم يصحو إلى نفسه، فيجد أنه أضاع وقته وأضاع نفسه.

      وكثير من المجانين يقعون في مثل هذا الخيال الذي يشبعون به أنفسهم، ويجدون به أنفسهم في مناصب ودرجات وألقاب. والفرق بينهم وبين العقلاء، أنهم يصدقون أنفسهم فيما يتخيلونه ويصيبهم نوع من المرض يُسمَّى البارانويا، وحكايات كثيرة.

      كثيرون يضيعون أنفسهم بشهوة العظمة الخيالية. وهى محبة خاطئة للنفس. أمَّا العظمة الحقيقية فليست كذلك. والذي تحاربه شهوة العظمة، ما أسهل أن يدخل في حروب ومنافسات قد تضيعه على الأرض. وهذه العظمة الأرضية تضيعه في الأبدية. وهناك أشخاص لا يجدون لأنفسهم تلك العظمة الخاطئة، فيحاولون أن يجدوا العظمة بالكلام. بالفرح بمديح الناس لهم. وإن لم يجدوا ذلك، فإنهم يمدحون أنفسهم. ويتحدَّثون عن فضائلهم وأعمالهم المجيدة، لكي ينالوا تمجيداً من الناس. ولا شكّ أن حروب العظمة قد ضيَّعت كثيرين.

«« هناك آخرون لا يقدرون على العمل البنَّاء. فيظنون أنهم يبنون أنفسهم بهدم البنائين. فيعملون على هدم وتحطيم غيرهم. ولا يسرَّهم شيء مِمَّا يعمله العاملون، فينتقدون كل شيء. ويبحثون عن أخطاء لتكون مجالاً لعملهم في النقد والنقض والتشهير. كأنهم يعرفون ما لايعرفه غيرهم. وفي نفس الوقت الذي يحطمون فيه بناء غيرهم، لا يبنون هم شيئاً. حياتهم كلها صراع، ويظنون الصراع بطولة. ويفرحون بذلك، ويفتخرون بأنهم هاجموا فلاناً وفلاناً من الأسماء المعروفة. ويقول الواحد منهم إن عنده الشجاعة التي بها يقول للأعور أنه أعور في عينه! إنهم يحبون في أنفسهم أن لهم الطبع الناري. وشهوتهم أن يرتفعوا على جماجم الآخرين. على أنهم في صراعهم هذا الذي يتخيَّلون فيه أنهم وجدوا أنفسهم، يكونون قد ضيَّعوها ... كالطفل المشاكس في الفصل، الذي يشعر أنه قد وجد ذاته في معاكسة المدرسين! ويظن ذلك جرأة وشجاعة وقوة وبطولة يبني بها نفسه التي يحبها، ولكنها محبة خاطئة للنفس.

      إن المحبة الحقيقية للنفس، هى بناء النفس من الداخل، حتى ولو كان هذا البناء بأن يقهر الإنسان ذاته، ويغلب ذاته. وبهذا الانتصار على النفس يبنيها من الداخل من حيث علاقتها باللَّه، ومن حيث المحبة التي تربطه بالكل. وقد ينكر ذاته لكي يظهر غيره. ومحبته الحقيقية لذاته، تجعله يضبطها، ولا يتركها تسير حسب هواها. ولا تفرح نفسه مطلقاً بهدم الآخرين. فالهدم أسهل كثيراً من البناء. وكما يقول المَثَل: " البئر الذي يحفره العاقل في سنة، يمكن أن يهدمه الجاهل في يوم ".

      هناك أشخاص يحبون أنفسهم بأسلوب خاطئ في فهم الحرية. حيث يظن الشخص أنه في حريته يفعل ما يشاء بلا قيد حتى المبادئ والقيم والتقاليد. يجب أن يتخلَّص من كل ذلك ويفتخر بأنه يتمتَّع بالحرية التي يهلك بها نفسه. مثال ذلك الشواذ، والوجوديون. كل أولئك يقصدون بالحرية، الحرية الخارجية. وليست حرية القلب من الرغبات الخاطئة، ولا يفهمون الحرية بأنها التَّحرُّر من الخطايا والأخطاء، والتَّحرُّر من العادات الفاسدة التي تستعبدهم. وأخطر من أولئك: الذين يعطون لأنفسهم الحرية في تفسير الكتاب حسب أهوائهم وينشرون آراءهم الخاصة كعقيدة. ويحب الواحد منهم أن يكون مرجعاً في المعرفة يقود غيره. ويحاول أن يأتي بفكر جديد ينسب إليه وينفرد به. ومن هنا ظهرت البِدَع، التي بها ابتدع الناس أفكاراً جديدة ضد التسليم العام.

«« ومن المحبة الخاطئة للنفس، الإعجاب بالنفس. إذ يكون الشخص باراً في عيني نفسه، وحكيماً في عيني نفسه. ويدخل في عبادة النَّفس. ولا مانع أن يكون الكل مخطئين، وهو وحده الذي على صواب. وهذا النوع يبرر ذاته في كل عمل وفي كل خطأ. ويرفض كل توجيه. وإن عوقب على خطأ، يملأ الدنيا صراخاً: إنه مظلوم! ولا ينظر إلى الذنب الكبير الذي ارتكبه، وإنما يدَّعي قسوة من عاقبه. والعجيب أن الكثيرين من هؤلاء الذين يقعون في الإعجاب بالنفس، يكون اللَّه قد منحهم مواهب. ولكنهم استخدموا المواهب في الإضرار بأنفسهم.