ختاماً عن الصوم

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

5/9/2010

جريدة الأهرام

 

 

      ماهو الصوم؟ ولماذا نصوم؟

      هل لأنَّ الصوم وصية إلهية علينا أن نطيعها؟ ولماذا أمر اللَّه بالصوم؟ إنَّ اللَّه لا يأمرنا بشيء إلا لخيرنا. إذن لابد هناك فوائد لنا من الصوم من أجلها أمرنا اللَّه به.

      ثم ماهو الصوم؟ هل هو مجرد علاقة بين الجسد والطعام؟ أم هو فى الأصل علاقة مع اللَّه؟

      نعم يا إخوتي. إننا لو فصلنا الصوم عن اللَّه، لا يصبح فضيلة على الإطلاق. فنحن من أجل اللَّه نأكل، ومن أجل اللَّه نصوم. من أجل اللَّه نأكل، لكي نأخذ من الأكل طاقة نستطيع بها أن نخدم اللَّه والناس. ونحن من أجل اللَّه نصوم، لأنَّ الصوم يُقرِّبنا إلى اللَّه بالأكثر.

«« في الصوم يكون الجسد تحت سيطرتنا، ولا نكون نحن تحت سيطرة الجسد. وكما نمنع الجسد عن الطعام، نمنع النفس أيضاً عن الخطايا والآثام. فنكون أثناء الصوم، لسنا فقط بجسد صائم، وإنما أيضاً بنفس صائمة. وعن أي شيء تصوم؟ يُذكِّرني هذا بقول أحد الآباء الروحيين: " صوم اللسان خير من صوم الفم. وصوم القلب عن الشهوات الرديئة هو خير من صوم الاثنين ". وفي الصوم أيضاً لا ننجس عقلنا بفكر رديء.

«« وفي الصوم إكتساب لفضائل كثيرة: منها تقوية الإرادة، وضبط النفس، والتَّدرُّج
على ترك خطايا محبوبة لنا وعادات خاطئة، ومنح الروح فرصة بعيداً عن رباطات الجسد، وفي الصوم أيضاً التَّدرُّج، تدرُّج على فضائل مُعيَّنة. وهكذا يكون الصوم فترة روحية،
أو فترة مُقدَّسة. ولا يكون الصوم مُجرَّد جوع للجسد، بل يكون غذاء للروح.

«« فمن الفضائل المُصاحبة للصوم: التوبة. والصوم من غير توبة، لا يكون مقبولاً عند اللَّه، ولا يستفيد منه الإنسان. والخطية التي يرتكبها الشخص أثناء صومه تكون أبشع. لأنها تدل على أنه لم يُبالِ بقدسية أيام الصوم. ذلك لأن شهر الصوم هو شهر بِرّ وقربي إلى اللَّه. فعلى الصائم أن يتخلَّص من الأخطاء التي تبعده عن اللَّه وعن الناس. ويتخلَّص من الكراهية ومن الحقد، ومن خطايا النرفزة، ومَسك سيرة الناس. ويتدرَّج أيضاً على مقاومة الوقت الضائع الذي هو جزء من حياته. ويخرج من الصوم بحياة أفضل، ويكون أكثر نقاوة وطهارة قلباً وفكراً وجسداً.

«« فهل شعرت يا أخي الصائم، بأن الصوم قد غيَّرك إلى الأفضل! أم خرجت من الصوم، وأنت كما أنت، بنفس الطباع، ونفس الأخطاء!! إن كان الأمر هكذا فماذا استفدت من صومك؟!

      كم أصوام يا إخوتي مرَّت علينا على مدى أعوام طويلة، ونحن كما نحن؟! إنَّ الصوم بلا شك له فوائده الكثيرة، هذا إذا كنا نصوم فيه بطريقة روحية سليمة، وبالرغبة في النمو الروحي بواسطته، وتعميق الصِّلة مع اللَّه تبارك اسمه.

«« وشهر الصوم أيضاً هو شهر رحمة. يشعر فيه الصائم بالجوع فيشفق على الجياع. وهكذا تنمو فيه فضيلة العطاء وتستمر معه. الجياع موجودون طول العام وليس في شهر الصوم فقط. إذن إذا بدأت فضيلة العطاء في شهر الصوم، يجب أن تستمر حتى تصبح منهج حياة، وأنت حينما تُعطي، إنما تُعطي من المال الذي أعطاك اللَّه إيَّاه، وأصبحت مُجرَّد مؤتمن على تدبيره ليس لخيرك فقط إنما لخير الآخرين أيضاً. أنت تُعطي فيعطيك اللَّه بالأكثر.
وإذا أمسكت يديك فأنت الخاسر. وما أصدق قول الشاعر عن الأموال:

 

فهى بالإنفاق تبقى

...

وهى بالإمساك تفنى

 

      إنها مثل قدح من القمح تلقيه في الأرض فيعطيك طناً من الغلة. إن الفقراء هم رعية اللَّه. أعطاك لتعطيهم. وبالنسبة إليك هم إخوتك في البشرية. فإن كنت لا تعطِ في فترة الصوم، فمتى ستُعطي إذن؟!! والصوم أيضاً هو فترة تتفرَّغ فيها للَّه بالأكثر. هى فترة أكثر للصلاة وللتأمل ولإنشغال الفكر باللَّه. وهنا أسأل في صراحة: ما هو نصيب اللَّه في صومك؟
هل مشاغل الدنيا ومشاكلها تملأ فكرك أثناء الصوم؟ وتتوه في دوامة العمل، ودوامة الأخبار، ودوامة الأحاديث ... وتشغل فكرك بالتافهات؟ ولا يبقى وقت للّه في مشغولياتك. إن كنت إنساناً روحياً، فعليك أن تقول لجسدك أثناء الصوم: " أنا لست متفرِّغاً لك الآن. بل أنا مشغول بعملي الروحي، وطعامي الحقيقي هو كل كلمة تخرج من فم اللَّه ". يا أخي إن يوم الصوم الذي لا تُفكِّر فيه في اللَّه وفي وصاياه، أشطبه من أيام صومك. لا تجعل مسئولياتك تطغي وتستقطب كل أفكارك. بل إجعل لها حدوداً. فتقوم بها ولكن بحيث لا تنسيك واجباتك نحو اللَّه. وليتك في برنامج صلاتك، أن تُصلِّي من أجل الآخرين أيضاً، من أجل كل محتاج إلى المعونة.

«« إن الصوم ليس هو إرغاماً لك على عدم الأكل، بل هو ارتفاع منك عن شهوة الأكل. وأن يكون صومك بغرض روحي. ويصير الصوم فترة تخزين روحي للعام كله. ومن هنا تختلف أيام الصوم عن باقي أيام السنة.

«« إن الصوم هو فترة ترتفع فيها الروح فتجذب معها الجسد، وتخلِّصه من أحماله وأثقاله. فلا نهتم بما للجسد بل بما للروح. نريد أن تكون أرواحنا مع اللَّه، وأن لا يعوقها الجسد فنخضعه بالصوم، لكي يرتفع عن المستوى المادي ويتحد مع الروح في عملها. وهنا يكون عمل الجسد أثناء الصوم هو مجرد تمهيد للروح، أو تعبير عن مشاعر الروح. ويصبح الجسد روحياً في منهجه. وتكون فترة الصوم هى فترة روحية يقضيها الجسد والروح معاً فى العمل الروحى. إن أخطر ما يتعب البعض فى الصوم: أن الجسد لا يتغذى والروح أيضاً لا تتغذى! فيكون الصوم بذلك فترة حرمان مُتعبة! إذن لابد من غذاء الروح أثناء الصلاة، وغذاء الروح هو في صلاة القلب، وفي التأمُّل، وفي القراءات الروحية، وفي التسابيح والتراتيل ... والروح إذا تغذت تستطيع أن تحمل الجسد معها.

«« إنك تُغذِّي جسدك كل يوم ومرات عديدة، وبأنواع شتَّى من الأطعمة. فهل تُغذِّي روحك هكذا؟! وأنت تُعطي جسدك مقويات عددية. فهل تُعطي روحك كذلك؟! ليتك تهتم بروحك على الأقل كما تهتم بجسدك.