الجدية والتدقيق

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

31 ديسمبر 2005

جريدة أخبار اليوم

 

الجدية هى الميزة الأولى التى تميز الناجحين والمتفوقين عن غيرهم فعظماء الرجال الذين سجل التاريخ أسماءهم، هم أولئك الذين كان لهم خط واضح رسموه لحياتهم، وساروا فيه بقلب ثابت لا يتزعزع، ولم ينحرفوا عنه يميناً ولا يساراً، وكانت لهم مبادىء ثابتة لا يحيدون عنها. كما انهم لم يسمحوا مطلقا لأية ظروف أن تعوقهم.

وايضا طلاب العلم الذين نبغوا، وكانوا الأوائل بين زملائهم، هم الذين عكفوا على دراساتهم بكل جدية. وأيضاًالعامل الناجح هو الذى يؤدى عمله بجدية. بل حتى اللاعب الناجح هو اللاعب الذى يكون جاداً فى لعبه، لا يتهاون أو يتكاسل فيه ..

****

والانسان الجاد هو جاد فى كل شئ ..

هو جاد فى وعوده، وفى مواعيده. لا يعد أحدا بوعد ويرجع فيه مهما كانت الأسباب. ولا يحدد لأحد ميعادا ويغيب أو يتأخر عنه ملتمسا لنفسه الأعذار!

والأنسان الجاد اذا نذز نذراً، لا يعاود التفكير فيه أو المساومة ولا يؤجل الوفاء بنذره، ولا يحاول استبداله بغيره، ولا يماطل. إنما بكل سرعة، وبكل جدية، ينفذ نذره كما هو. واضعا أمامه القاعدة الذهبية التى تقول " خير لك أن لا تنذر، من أن تنذر ولا تفى " لهذا فكل وعوده ونذوره، تكون موضع ثقة .

****

والانسان الجاد يهدف الى الكمال. لذلك فهو ينمو باستمرار ..

الجدية تمنحه حرارة روحية. والحرارة تدفعه كل حين الى قدام ..

وإذ يتمسك- فى كل ما يعمل- بأعلى درجة يمكنه الوصول اليها، لهذا فإنه بكل مثابرة واجتهاد، يمنح مسئولياته كل قوته وكل إمكانياته، وكل إرادته وكل قلبه.. ويعمل بكل النعمة المعطاة له، ولا يقصر فى شئ إنما يبذل كل طاقاته.. ولذلك فهو لا يحتاج كثيرا إلى من يدفعه فى الطريق، فالدفع المستمر يأتيه من الداخل.

والانسان الجاد لا يدلل نفسه ولا يحابيها. ولا يعذرها فى أى تقصير.

وإن توانت نفسه يوما، يغصبها على العمل وعلى التقدم، حتى تتعود ذلك وتؤديه فى تلقائية.

****

والأنسان الجاد، إذا صادفته صعاب، ينتصر عليها، ولا يعتذر بها ..

انه لا يستسلم لعقبة، بل يكافح ساعيا الى المثاليات، مصرا على النجاح فى طريقه مهما كانت العقبات امامه. وهو ينجح فى كفاحه، طالما كان حارا فى الروح، لا يفتر ولا يضعف..

ومادامت المثاليات أمامه، فإنه لا يرضى بأنصاف الحلول، ولا باجتياز مرحلة فى الطريق والأكتفاء بها! بل يسعى بكل نشاط، حتى يصل الى الغاية والى النهاية. لذلك فهو فى صعود مستمر نحو الهدف..

وهذا الجاد الذى يتقدم باستمرار، لا يخشى عليه من النكسات أو من الرجوع الى الوراء..

****

ان الجدية فى الحياة، دليل على الرجولة وقوة الشخصية:

والانسان الجاد فى حياته، هو انسان يحترم نفسه،ويحترم مبادئه، ويحترم الكلمة التى تخرج من فمه، ويحترم الطريق السليم الذى يسلكه. فهو- لهذا كله- يتميز بالثبات وعدم الزعزعة. انه كسفينة ضخمة تشق طريقها فى بحر الحياة بقوة متجهة نحو غايتها..

وليست كقارب تعصف به الأمواج فى أى اتجاه..

إن الأنسان غير الجاد، يتأرجح فى حياته دائما بين الصعود والهبوط .

ومسيرته غير ثابتة، سواء فى امور عمله، او فى حياته الروحية..

فهو يسقط ويقوم، ويداوم القيام والسقوط ، فى غير استقرار !!

أحيانا يكون حارا، واحيانا يكون فاترا،أو باردا. فى فترة يكون مهتما، وفى اخرى يقابل الأمور بلا مبالاة !!

****

الانسان الجاد، تظهر جديته فى سلوكه الروحى وعلاقته مع الله:

فالجدية فى السلوك الروحى، لا تقبل الاهمال والتراخى ولا التردد، ولا الرجوع احيانا الى الوراء. ولا تقبل التـأرجح بين طريقين: حياة الفضيلة وشهوة الخطية! أو ساعة للقلب، وساعة للرب!! كما لو كان القلب والرب فى طريقين متناقضين!!

الإنسان الجاد لا يتساهل فى حقوق الله مطلقا. انه يأخذ حق الله من نفسه هو أولا، قبل أن يسعى لأخذ حق الله من الآخرين.

وهو يسلك فى وصية الله بكل حزم وبكل دقة وبكل عمق.. وطاعته لله-تبارك اسمه- تكون بغير مناقشة وبغير مساومة..

والجدية فى الحياة الروحية لا تعنى التزمت اطلاقا!

فمن الممكن أن يسلك الانسان بطريقة روحية فى حياة الفضيلة، وفى نفس الوقت يكون بشوشا، ومرحا فى وقار..

أما التزمت فهو لون من التطرف. والتطرف ضد الروحانية والجدية..

****

والانسان الجاد الروحى، لا يقدم تبريرات للسقوط فى الخطية !!

فالفضيلة واجبة، مهما كانت الظروف الخارجية ضاغطة.. ومثال ذلك يوسف الصديق العفيف: كانت الظروف من الخارج تضغط عليه، ولكنه لم يخضع لها، ولم يتساهل مع الخطيئة، بحجة أنه وقتذاك كان عبدا، وتحت سلطان غيره، وبامكان سيدته أن تؤذيه..

ولكن الخير الذى كان فى قلبه، كان أقوى من الخطيئة التى تغريه، وكان أقوى من الضغوط الخارجية. وكان يوسف جادا فى حفظ نفسه طاهرا..

****

اذن يجب أن يكون الانسان جادا فى حياة التوبة:

فيقاوم الخطيئة بكل جدية، اذا ما حورب بها.

وان سقط ، يكون جادا فى توبته ولا يؤجلها. وان تاب وترك الخطيئة، يتركها بجدية، ولا يعود اليها مرة اخرى. وليضع امامه قول ذلك الأب الروحى" لا أتذكر أن الشياطين قد أطغونى مرتين فى خطية واحدة" .

فقد يكون السقوط عن جهل او ضعف. ولكن متى أدرك التائب الجاد ذلك، يحرص الا يقع فى نفس الخطأمرة اخرى. بل تكون التوبة نقطة تحول كامل فى سلوكه بغير عودة فهو يغلق ابواب فكره وقلبه امام الخطية غلقا تاما، بعزيمة قوية واصرار شديد على حياة البر، ويكون جادا فى تداريبه الروحية لا يكسرها مهما كانت الاسباب، ويحفظ تعهداته امام الله فى جدية.

****

على أن الشيطان أو أعوانه، الذين يحاربون الأنسان فى جدية الحياة الروحية، قد يغرونه بما يسمونه المرونة فى سلوكه!!

لكن المرونة لا تكون ابدا بالخروج عن القيم الروحية. انما المرونة بمعناها الحقيقى تكون فى داخل القيم وليس خارجها..

وليست المرونة مطلقا فى عدم الالتزام، بل يكون الأنسان مرنا مع الألتزام بحياة الفضيلة والبر.

والجدية تلزم الانسان ايضا على حياة التدقيق

****

من مظاهر الجدية, التدقيق فى كل شئ

والإنسان الجاد فى حياته، يحرص أن يكون مدققا فى كل تصرفاته، وفى كل كلمة يقولها، وكل فكر. ويكون مدققا من جهة حواسه ومشاعره، ومن جهة مواعيده ووقته. وبالاختصار فى كل علاقاته مع الله والناس، ومع نفسه. ويتدرب على ذلك، حتى يصبح التدقيق جزءا من طبعه.. وبعد ياقارئى العزيز، ألست ترى أن موضوع التدقيق يلزم له مقال خاص؟ انى أرى ذلك ايضا. فإلى اللقاء.