حياة التدقيق

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

7 يناير 2006

جريدة أخبار اليوم

 

          بدأنا مقالنا السابق عن "الجدية والتدقيق. ونتابع اليوم حديثنا عن التدقيق فى كل تفاصيل الحياة" .

إن الإنسان المدقق، يشمل تدقيقه كل تفاصيل حياته ولا يكون تدقيقه فقط امام الناس، إنما حتى حين يكون وحده فى غرفته الخاصة.

نقول هذا لان التدقيق فى التصرف قد يكون سهلا نوعا ما فى حضرة الناس لاننا بطبيعتنا لا نحب أن ينتقدنا الناس، أو نخشى ان نكتشف أمامهم ، وتظهر أمامهم عيوبنا واخطاؤنا. ولهذا فان القياس الحقيقى لتدقيقنا، يظهر حينما نكون وحدنا لا يبصرنا أحد. وهنا يكون التدقيق حقيقيا وليس ريائيا.

****

والإنسان المستقيم، يصبح التدقيق جزءا تلقائيا من طبعه، وليس مجرد محاولة منه أو تدريب.

انه تعود ان يكون مدققا فى كل شئ، بدوافع داخلية فيه تمثل بعضا من مبادئه وقيمه.. وحتى ان كان - فى حياته الخاصة - لا يراه الناس، فهو يجب ان يكون بلا لوم امام الله الذى يراه، وأمام الملائكة الذين يرونه، وأمام أرواح الأبرار فى العالم الآخر..

فهل أنت مدقق بهذا المقياس، بغض النظر عن أحكام الناس؟

****

هنا نسأل: ما هو التدقيق؟

التدقيق هو حرص على التصرف السليم، مع الأحتراس من أقل خطأ. هو سعى نحو أكمل وضع ممكن، بغير تسيب ولا تراخ ولا اهمال، وفى بعد عن التبريرات التى تدافع عن كثير من الأخطاء، هو خطوة نحو الكمال.

فالذى يدقق محترسا من الوقوع فى الصغائر, من الصعب عليه ان يقع فى الكبائر والذى يحترس بكل قوته لكى لا يقع فى الخطيئة بالفكر، ليس من السهل ان يقع فى الخطيئة بالعمل.

****

ولكن على الإنسان فى تدقيقه، ان يحترس بحيث لا يقع فى التزمت أو فى الوسوسة أو الحرفية.

ففى التزمت والوسوسة، يظن المتزمت وجود الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو يفخم من قيمة الأخطاء فوق حقيقتها، أو تحاربه عقدة الاثم بدون سبب معقول. أو هو- فى سبيل الدفاع عن الحق - يصل إلى التطرف الذى يؤثم تصرفات سليمة !!

مثل أولئك الفريسيين الذين قال عنهم السيد المسيح انهم يحملون الناس أحمالا ثقيلة عدة الحمل. وانهم يغلقون ملكوت السموات قدام الناس، فلا يدخلون هم، ولا يدعون الداخلين يدخلون!!

إنما التدقيق - بمعناه الحقيقى السليم- هو تصرف فى وضع وسط، ما بين التسيب والتزمت. انه يذكرنا بميزان الصيدلى: بحيث كل مادة تدخل فى تركيب الدواء. ان زادت عن الحد قد تضر، وان نقصت قد تضر فالمدقق له مبادئ يحافظ عليها، بحيث لا يبالغ فيها ولا يهمل.

****

الإنسان المدقق، يكون حريصا على وقته، كجزء من حياته .. يستخدم الوقت بطريقة سليمة. لا يضيع شيئا منه فيما يندم عليه، أو فيما لا يستفيد منه. وهو يوزع وقته توزيعا عادلا على جميع مسئولياته.

وفيما يحرص على وقته، يحرص على دقة مواعيده، وعلى نظام حياته.

وكما يكون مدققا من جهة  وقته، يكون أيضا مدققا من جهة وقت غيره.

نقول هذا، لأن إنسانا قد يظن أن وقت الآخرين رخيص عندهم!

فيزور غيره فى موعد غير مناسب، أو يكلمه ويشغله مضيعا وقته.

بينما هذا الغير لا يعرف فى خجله كيف يهرب منه!

أما الإنسان المدقق فهو يحترم حياته ووقته، ويحترم حياة الآخرين ووقتهم. ولا يسمح لنفسه أن يضيع وقته فى التوافه، أو أن يعطى أية مشغولية أو زيارة وقتا فوق ما تستحق.

****

والإنسان الصالح ينبغى أن يكون مدققا فى كلامه:

فهو يزن كل كلمة قبل ان يقولها، سواء من جهة معنى الكلمة أو قصدها،أو مناسبتها للمجال أو للسامعين، أما الذى يتكلم ثم يندم على قول، فهو غير مدقق فى كلامه. وكذلك الذى يتكلم، ثم يعاتبونه على معنى كلامه، فيقول ما كنت أقصد ذلك، هو أيضا غير مدقق فى كلامه. ويخطئ أيضا الذى يتكلم ويجرح شعور غيره، بغير حكمة وبغير تدقيق.

إن السرعة فى التكلم، هى من الأسباب التى تؤدى إلى عدم التدقيق. سواء السرعة فى ابداء الرأى، أو السرعة فى الحكم على الآخرين، أو السرعة فى الأستسلام للغضب. كل ذلك يعرض الإنسان للخطأ. فلا يكون مدققا فى كلامه.

أما الذى يتباطأ، ويزن الكلمة قبل أن يقولها، فانه يكون أكثر تدقيقا. لأنه فى الأبطاء أو فى التفكير المتزن، يمكنه أن يتحكم فيما يريد أن يقوله،بحيث يتخير الألفاظ المناسبة،ويحسب ردود فعلها لأن الكلمة بعد أن يلفظها، لا يستطيع أن يغيرها أو يسحبها! لقد حسبت عليه.

وكما يدقق الإنسان فى كلامه، ينبغى أن يدقق فى مزاحه وضحكه.

بحيث لا يخرج مزاحه عن حدود اللياقة والأدب، كما لا يجوز أن يتحول ضحكه إلى لون من التهكم على الغير أو الإستهزاء به، وجعله مادة لفكاهاته ولسخريته وتسلية الناس! ولا يجوز أن يؤدى ضحكه إلى جرح شعور غيره.فمن حق الإنسان أن يضحك مع الناس، لا أن يضحك على الناس. وليس له أن يهين غيره، ولو فى مجال مزاح، ولو عن غير قصد.

****

والإنسان الروحى يكون أيضا مدققا فى نقده وفى عتابه: فالنقد السليم ليس هو التجريح ولا التشهير. إنما هو لون من التحليل، تذكر فيه النواحى الطيبة. أما المآخذ فتذكر بطريقة موضوعية، وليس بطريقة شخصية، وبأسلوب غير هدام.

والعتاب أيضا لا يكون قاسياً ولا يوبخ الشخص من يعاتبه، كمن يريد أن يحطمه. بل يكون هدفه أن يصالحه. والعتاب الخاطئ قال عنه الشاعر:

ودع العتاب فرب شر.. كان أوله العتابا

ماأكثر الناس الذين يستخدمون كلمة "الصراحة" فى غير معناها الدقيق، فتتحول الصراحة إلى مهاجمة وتجريح، ولا تأتى بنتيجة.

****

الإنسان المدقق تظهر دقته أيضا فى كل عمله ومسئولياته:

سواء كانت المسؤلية ادارية أو مادية أو اجتماعية. فالدقة فى العمل تقود إلى النجاح والاتقان، وإلى احترام الناس وثقتهم. والإنسان المدقق لا يحتاج إلى من يراجعه فى عمله. فهو يبعد عن كل خطأ، وتكون دقته فى العمل نموذجا لغيره. وان اخطأ لسبب ما لا يحاول أن يبرر ذلك بأعذار. فمحاولة تبرير الأخطاء هى ضد التدقيق.

هناك كثيرون يدققون فى محاسبة غيرهم ولا يدققون فى محاسبة أنفسهم!

أما انت فحاسب نفسك بتدقيق شديد، ولا تعذر نفسك. ولكن بالنسبة إلى الآخرين، فحاول ان تلتمس لهم عذرا.

****

الإنسان الروحى يكون دقيقا أيضا فى عبادته، وفى مقاومة الخطية:

انه لا يقصر فى صلاته، وفى صومه، ولا فى قراءاته الروحية، ولا فى شئ مما يربطه بحياة الفضيلة والبر. ويكون حريصا جدا فى البعد عن أسباب الخطية. وان عرضت له, يقاومها بكل حزم.

ويدقق فى كل سلوكياته: فى العمل، وفى هدفه، ووسيلته. ويحرص أن يكون امام ضميره بغير لوم. ويحكم على نفسه قبل ان يحكم الناس عليه. واذا كان فى موقف ادارة، يحترس ان يتطور من الأمر إلى التسلط. ويحترس ان يتحول من القدوة إلى محبة المديح واعلاء الذات.