الهدوء

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

4/3/2003

جريدة الجمهورية

 

 

هذه الفترة الصاخبة التي تعيشها البشرية علي الأرض لا تقاس إطلاقاً بالهدوء الذي كان منذ الأزل والذي سيكون في الأبد إلي ما لا نهاية إنها نقطة مضطربة في بحر من الهدوء اللانهائي..

ولعل الملائكة ينظرون إلي عالمنا في تعجب

ولعلهم يقولون: ما هذا الضجيج في هذا الكوكب؟!

ولماذا يعيش الناس في صخب هكذا؟!

متي يهدأون؟

يقيناً إنهم لن يهدأوا. إلا إذا وصلوا إلينا..

لأن الهدوء هو منهج الحياة في السماء..

****

تاريخ الهدوء

الهدوء هو الأصل في هذا الكون

وهو الأصل قبل خلق الكون أيضاً

كان الله وحده في الأزل. في هدوء كامل..

ملايين السنوات مرت. أو ملايين الملايين. بل ما هو أكثر.

بل قبل أن يوجد الزمن. وقبل أن تُعرف مقاييسه. والهدوء هو الأصل.

وأخذ الله يعمل في هدوء. وكان عمله الأول هو الخلق.

في هدوء كامل خلق الله كل شيء. ونظر إلي كل ما عمله. فإذا هو حسن جداً. وهكذا تمت كل قصة الخلق في هدوء..

خلق الله الكون. وعاش الكون في هدوء. وكمثال لذلك. كانت الأجرام السمائية تتحرك في الفلك. بكل نظام ودقة. وبكل هدوء. بدون اضطراب. نهار يعقبه ليل. وليل يعقبه نهار. بلا ضجيج ولا صراع.

****

إذن متي بدأ الكون يفقد هدوءه؟

كان ذلك بعد أن خلق الله مخلوقات عاقلة. ذات إرادة حرة!

مرت علي هذه الكائنات العاقلة فترة وهي هادئة. ليس من يخالف ولا من يعصي. ولا من يثير إشكالاً أو اضطراباً بأية صورة.. ثم كان أول فقدان للهدوء بسبب الشيطان.

هذا كان ملاكاً. ثم تمرد وفقد هدوءه فصار شيطاناً. وأسقط معه مجموعة من جند السماء. فصاروا شياطين مثله. وأصبح عملهم هو الجولان في الأرض والتمشي فيها. لعلهم يسقطون منها أحداً.

****

ومن جهة البشرية. عاش الإنسان الأول في هدوء وهو في الجنة.

حتي الوحوش كانت تحيا معه في هدوء.

لا عداوة بينهما. لا هي تفترسه ولا تهجم عليه. ولا هو يصطادها أو يطاردها. ولا يخافها. بل تجمع الإنسان والوحوش رابطة من الألفة والمعيشة المشتركة الهادئة.

والحيوانات المفترسة لم تكن مفترسة في أيام آدم وحواء. لم يكن الافتراس قد دخل بعد إلي العالم. إذ كان العالم لا يزال يحتفظ بهدوئه. وكانت الوحوش في ذلك الوقت تأكل العشب. لم تكن فيها "الوحشية" التي دعيت بها وحوشاً. بل كانت هادئة.

ثم فقد الإنسان هدوءه بعصيانه لله. وطُرد من الجنة وأدركه الخوف. ففقد هدوءه الداخلي. وساءت العلاقة بينه وبين الوحوش. فأصبح يصيدها. وهي تفترسه. وكما فُقد الهدوء بين الإنسان والحيوان. فُقد الهدوء بين الإنسان والإنسان. وإذا بهابيل البار يقتله أخوه. ودخل الشر في الأرض وانتشر. وفقدت الأرض هدوءها. وعرفت الحروب والصراعات.

****

إنها قصة مأساة. تحوّل بها الإنسان من عمق الهدوء. إلي عمق الاضطراب. وفقدان السلام داخل نفسه ومع الغير

وصار الإنسان يبحث عن الهدوء ويشتاق إليه.

فما هو الهدوء؟ وما عناصره؟ وما الفضائل التي ترتبط بالهدوء؟

وكيف يمكن للإنسان أن يحصل علي الهدوء. ويستمر فيه؟

هذا ما نود أن نتحدث فيه في هذا المقال وما يليه.

عناصر الهدوء

الهدوء يشمل حياة الإنسان كلها.. ونذكر من ذلك:

- الهدوء الداخلي. ويشمل هدوء النفس والقلب والفكر

- هدوء الجسد. ونعني به هدوء الحواس. وهدوء الحركات

- هدوء الأعصاب: ويدخل فيه عدم النرفزة. وهدوء الملامح والصوت

- هدوء التصرف: ويشمل الهدوء في الحياة العملية. والتعامل مع الغير. وهدوء الحلول فيما يصادف الإنسان من مشاكل.

نضيف إلي هذا كله هدوء الطبيعة والمكان والمسكن

وهدوء المجتمع المحلي. والمجتمع الإنساني كله بما فيه من دول وشعوب. وما ترتبط به من علاقات.

****

الهدوء الحقيقي

لا يمكن أن نحكم علي إنسان بأنه هاديء. إلا إذا حدث اختبار لهدوئه.

فقد يبدو الإنسان هادئاً. لأن الظروف الخارجية التي حوله هي الهادئة. ولم تحدث مشكلة أو إثارة تختبر هدوءه. وربما لو حدث اصطدام به. لظهر علي حقيقته.

فإن اختلف مع غيره في الرأي أو في التصرف. أو إن أصابه أذي. أو تعرّض إلي إهانة أو كلمة جارحة. حينئذ يمكن من تصرفه الحكم علي هدوئه. ونفس الوضع إذا وقع في مشكلة ما. أو في ضيقة. أو تعرّض لمرض. أو إن واجهته صعوبة ما.. فإن هذا كله يكون اختباراً لنفسيته. واختباراً لأعصابه: كيف يسلك وكيف يتصرف؟

وهل يفقد هدوءه أم يحتمل ويحل مشكلته في هدوء..؟

هذا هو أول اختبار للهدوء. لأن كل إنسان يمكنه أن يكون هادئاً في الظروف الهادئة.

****

أما الاختبار الثاني. فهو مدي الاستمرار في الهدوء.

والهدوء الحقيقي هو هدوء دائم. كشيء من الطبع

فلا يهدأ الإنسان إلي فترة زمنية. ثم يفقد بعدها هدوءه. ويتغير أسلوب تماسكه أمام المشاكل. فالهدوء الحقيقي ليس مجرد احتمال مؤقت. إنما هو الطبيعة الهادئة التي تستمر في هدوئها. مهما طال الوقت وتغير الحال.

الهدوء الحقيقي ليس ستاراً تختفي وراءه طبيعة غير هادئة تكشفها الأحداث. فالإنسان الهاديء بطبعه. لا تثيره المشاكل والاصطدامات. بل علي العكس تظهر ما فيه من رحابة صدر. ومن وداعة وطيبة قلب.

****

3- والهدوء الحقيقي ليس هو الهدوء الظاهري. بل الداخلي

فلا يكون الشخص هادئاً من الخارج فقط. بينما في داخله بركان ثائر. بل علي العكس. يكون هدوؤه الداخلي هو منبع وسبب هدوئه الخارجي.

4- وهناك فرق بين الهدوء الحقيقي. والبرود الذي قد يكون أحياناً بروداً مثيراً

فالإنسان الهاديء المحب للهدوء. لا يكون فقط هادئاً. وإنما أيضاً يحاول أن يهديء غيره. ويشيع الهدوء فيما حوله.

وذلك لأنه قد يحدث أحياناً أن شخصاً قوي الأعصاب يمكنه أن يحتمل زميلاً منفعلاً. ويرد عليه بهدوء شديد. أو ببرود شديد. بأسلوب يثير أعصابه بالأكثر. فيزداد انفعاله. ويقابل هو ذلك الانفعال بمنتهي البرود متفرجاً عليه. جاعلاً منه موضع سخرية الحاضرين!

كلا. ليس هذا هو الهدوء في معناه الروحي.

****

فالإنسان الروحي الهاديء. لا يحطم غيره بهدوئه..

إن أخاه المنفعل هو وديعة في يديه. يحافظ علي أعصابه وعلي سمعته. ويحاول أن يوصله إلي الهدوء هو أيضاً. وبالتالي لا يثيره. لأن محب الهدوء يريد الهدوء لغيره كما يريده لنفسه. ولا يجعل شيطان المجد الباطل يحاربه بهدوء زائف يكون فيه خصمه هائجاً وثائراً. ويكون هو قد أخرج الشيطان بهذا الهياج من خصمه وعدم ضبطه لنفسه.

إن الإنسان الناجح في هدوئه. لا يفرح بسقوط غيره.

بل إنه في هدوئه. يشيع الهدوء علي الكل. ويجعل لقاءه بغيره هادئاً. سواء من جهته هو. أو من جهة هذا الغير. وإن وجد غيره هائجاً. يهدئه بالجواب اللين. وليس بالجواب المثير.

****

5- الإنسان الهاديء قد يكون هادئاً بطبيعته. وقد وُلد هكذا.

وقد يكون الهدوء عنده مكتسباً..

الهاديء بطبيعته لا يبذل جهداً لكي يتصرف بهدوء. لأنه ينفر بطبعه من كل ما هو غير هاديء. أما الهدوء المكتسب. فيحتاج إلي جهد وإلي تداريب روحية سنتكلم عنها في حينها. ولا شك أن كل جهد يُبذل في الوصول إلي الهدوء. له مكافأته وأجره.

وهذا الهدوء المكتسب. قد يصل إليه الإنسان تدريجياً. فإذا ما وصل. لا يعود يبذل جهداً لكي يكون هادئاً. بل إنه يصير ثابتاً وراسخاً في حياة الهدوء. وله فيها خبرات. ولذلك فإنه يحافظ علي هذا الهدوء الذي اقتناه بتعب. وبمعونة كبيرة من النعمة.

وأنت ياقارئي العزيز. إن كنت غير هاديء بالطبع. فلا تيأس ولا تحتج قائلاً: ما ذنبي؟ لقد وُلدت هكذا!!

حتي إن كنت قد وُلدت هكذاً. أو ورثت عدم الهدوء عن أب أو أم. فليس هذا بعذر. لأنك تستطيع أن تغير هذا الذي ورثته. فالذي لم ينل الهدوء الطبيعي. يمكنه أن ينال الهدوء المكتسب..

وذلك بأن يدرب نفسه علي الهدوء. ويجاهد لكي يقتنيه. فالطباع التي يولد بها أي شخص. ليست بالأمر الثابت غير القابل للتغيير. فما أسهل أن يتغير. إن وجدت النية الطيبة. والعزيمة الصادقة. والتداريب الناجحة والثبات فيها.

والتاريخ يعطينا أمثلة لأشخاص كانوا عنفاء. واكتسبوا الوداعة والهدوء. بالتدريب والوقت والصبر.

****

علاقة الهدوء بفضائل أخري:

1- يرتبط الهدوء بالوداعة والاتضاع:

فالوديع هو هاديء بطبعه. يتصرف بالهدوء تلقائياً. وهو يتصف بالبشاشة والمسالمة. وكذلك الإنسان المتضع. فإنه لا يسيء إلي غيره. كما أنه يحتمل الغير. فيحيا مع الكل في هدوء.

2- والهدوء يرتبط أيضاً بالحكمة

والحكيم لا يثير المشاكل. بل يتصرف بهدوء لا تحدث بسببه مشكلة وإن قابلته مشكلة. فبحكمته يحلها في هدوء. ولا تتطور مطلقاً إلي أسوأ. كما أن الحكيم له عمقه في فهم الأمور. وعمقه في التصرف حيالها. لهذا يكون هادئاً. يعالج كل الأمور بحكمة وهدوء.

****

3- الهدوء أيضا يرتبط بالمحبة والسلام

فالإنسان المحب. يعيش في مسالمة وهدوء مع جميع الناس. وإن ثارت مشكلة. يتقبلها بروح المحبة. ولا يجعلها تتضخم. بل يعمل علي حلها في هدوء. لأن الثورة بسبب المشكلة لا تؤدي إلي استمرار المحبة والمسالمة. وهكذا فإن العائلات التي تسودها المحبة. تحيا دائما في هدوء. لا تتخاصم ولا تتشاجر.

4- الهدوء يرتبط بمحبة الهدوء. والاقتناع بفوائده الكثيرة. وبمقدار الخسارة التي تنتج عن فقدان الهدوء

فالإنسان الهاديء يكسب احترام الناس. ويعيش في سلام معهم. بينما غير الهاديء يخسر المواقف. وتُمسك عليه أخطاء. ويخسر علاقته مع الناس. بل يخسر أيضا سلامه الداخلي وصحته.

وغير الهاديء نفسياً. يضع هموم الدنيا كلها فوق رأسه. وبعدم هدوئه يضيف إلي تلك الهموم هماً جديداً.