وماذا بعد؟!

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

25/3/2003

جريدة الجمهورية

 

 

العالم الآن عالم مضطرب. يعيش في توتر. وفي قلق..

يجتمع الناس حول سؤالين: ماذا يحدث؟ وماذا بعد؟

يجلسون إلي وسائل الاعلام. وإلي كل قنوات التليفزيون. وإلي الاذاعة. لكي يعرفوا اجابة هذين السؤالين: ما هي آخر الأخبار؟ وماذا يُنتظر أن يحدث؟ ولنفس الغرض يقرأون الجرائد.

والمشرفون أيضاً علي وسائل الإعلام يدورون في نفس الدائرة: يسألون مراسليهم في الخارج: ماذا يرون؟ وماذا يسمعون؟ وما هي ردود الفعل هنا وهناك؟ وما هي التوقعات المنتظرة؟

ويستقدمون الخبراء من رجال السياسة. ومن رجال الحرب. ومن ذوي المعرفة والخبرة.. ويحاورونهم فيما يحدث. ويطلبون رأيهم.

وتصل إلي الشعب تقارير تبدو بعضها متناقضة: فريق يعلن أمراً. وفريق ينفي ما يقال!! فمن الذي نصدقه؟ ومن نكذبه؟ ويجيبون بأنها الحرب النفسية التي ينشرها كل فريق ضد الآخر.. ويبقي العالم في حيرة أو في بلبلة. يضيفها إلي توتره.

***

وماذا عن هيئة الأمم المتحدة؟ إنها لم تعد متحدة!

وماذا عن مجلس الأمن؟ إنه لم يستطع أن يحفظ الأمن!

وماذا عن زعماء الدول الكبري. الذين وقفوا ضد الحرب؟

انهم أيضاً - مثل الدول العربية - يشجبون ويدينون. ويستنكرون ما يدور من حرب ومعارك. ويظهرون سخطهم. ويكتفون بالسخط.. وبعضهم يسلّمون بالحرب كواقع وقع. ويتحدثون عن إغاثة الجرحي. وعن إرسال المؤن والتغذية. وعن اعادة الإعمار بعد الحرب! والبعض يتحدث عن اجتماعات أخري لهيئة الأمم أو لمجلس الأمن. وكل من الفريقين يهدد الآخر بالفيتو. وهكذا لا يصدر قرار من تلك الهيئات العالمية.. ويبقي العالم في توتره وفي انتظاره.

ويسأل البعض: هل يمكن أن ينتهي الأمر إلي حرب عالمية؟ أم أنه سيستمر في حرب كلامية؟! تدور حول تصريحات وبيانات والحرص علي نوال تأييد أو تصفيق من الرأي العام العالمي!!

***

وهنا نسأل: ما هو الرأي العام العالمي؟

وكيف يعبر عن رأيه ومشاعره؟ وما جدوي تعبيره؟

الحقيقة انه يوجد انقسام. وكل فريق يزعم ان الرأي العام في جانبه. وكل فريق يحاول ان يجذب معارضيه إلي جانبه.

والبعض يتأرجح بين الفريقين. ومنهم من يوافق علي الهدف. ولا يوافق علي الوسيلة. والبعض يتمسك بالشرعية. والبعض الآخر يتمسك بالحل العملي وما تقتضيه الضرورة!

والبعض ينتظر ماذا ستكون نتيجة الحرب وتطوراتها. وحينئذ يمكنه أن يبدي رأيه. وهناك من ينظر إلي مصلحته الشخصية في هذا الصراع الدائر. بغض النظر عن المبادئ والمثل.

وأحياناً تكون الحكومات في جانب. والشعوب في جانب.

وبعض من الشعوب تعبر عن رأيها بالمظاهرات.

والمظاهرات علي أنواع: منها ما هو هادئ. ومنها ما هو ثائر. ولكن يبقي السؤال قائماً: هل تستطيع المظاهرات ان توقف الحرب؟

أم هي مجرد اظهار مشاعر وتعبير عن رغبات؟ أم هي وسيلة ضغط لارغام الدول علي اتخاذ موقف؟ ثم ما هو الموقف الذي يمكن للدول أن تتخذه؟ هل تدخل الحرب؟ وفي هذه الحالة يزداد العالم اضطراباً!!

أم المراد ان تبدي الدول رأيها ضد ما يحدث؟ وان كانت الدول قد أبدت رأيها. فماذا تفعل بعد ذلك؟

أم المظاهرات هي لمجرد تأييد لبعض الدول في موقفها. واحتجاج علي دول أخري في موقفها؟ أو لمجرد أن يسمع العالم صوتها؟

وهل كل المظاهرات يقودها فهم سليم؟ أم يحدث من بعضها تخريب في ممتلكات الدولة أو الأفراد "وقد حدث هذا فعلاً في وقت ما". ويكون المتظاهرون قد أساءوا إلي بلادهم. وخرجوا عن الهدف الذي بدأوا به مظاهرتهم! وتصرفوا بغير حكمة.

***

كذلك فإن الحروب يسودها مبدأ هام هو "توازن القوي"

سواء كانت هذه القوي في العتاد الحربي من أسلحة متنوعة وفعالة. أو من جهة العقل البشري الذي يقود الحرب. ويخطط وينفذ. ويحصل علي الهدف بأقل خسارة.

والحرب حالياً تستخدم التكنولوجيا الحديثة. وأصبحت لا تعتمد علي عدد المقاتلين كما كانت في القديم. انما علي الأجهزة المتطورة التي تفوق القدرة البشرية. فكم تكون فاعليتها وقد استخدمتها عقول بشرية. وتدربت علي تطويعها لأهدافها.

لذلك فالحروب تكون قصيرة في مداها الزمني. وأكثر تخريباً وفتكاً وتدميراً.. إلا إذا كانت الدولة المحاربة حريصة بقدر ما تستطيع علي الجانب الانساني والجانب الحضاري أثناء حربها. وهذا ما ندعو اليه. وما نصلي لأجله بكل قلوبنا.

***

وها نحن نسمع صوت الصواريخ وصوت القنابل. تدك المدن وتدك المباني. وتخرب البيئة والحضارة.

ويكون ضحيتها أيضاً بعض البشر من هنا ومن هناك.

ومال كثير يستخدم في الخراب. وبعض آبار بترول تحترق!

والخير الذي أوجده الله لمنفعة الناس. ينثرونه هباءً.. والعقل الذي وهبه الله لقيادة البشر إلي الخير. يُستخدم الآن في التدمير والتخريب! وكل من الفريقين المتحاربين يظن أنه يفعل خيراً. والمنتصر في الفتك بأخيه يحسب أنها بطولة ونصر!

حقاً إنها لمأساة..

هذه النار التي تشتعل. وهذه القذائف التي تدوي. وهذه المباني التي تُهدم. وهذه الحضارة التي تندثر ويقال إنه سيعاد تعميرها. وهذي النفوس التي تصعد إلي باريها ضحية لما يحدث.

***

والذي يحدث في العراق. لا ينسينا ما يحدث في فلسطين

نفس الخراب ونفس الضياع. ولكن بموت بطئ عن ذاك. غير انه يخلو تماماً من العامل الانساني. مثالها تلك الفتاة الأجنبية الباسلة التي وقفت أمام البولدوزر فداسها بلا رحمة وحطمها.

وكذلك البيوت التي جرفتها الكاسحات وهدمتها علي أصحابها. والأعداد الكبيرة من القتلي والجرحي كل يوم. والنساء اللائي يترملن ومعهن أطفال يتيتمون. ونفسيات تنكسر. ويصيبها اليأس والاحباط.

والعالم للأسف واقف يتفرج. وأكبر عامل من الرحمة نسمعه. انه بعد حين - بعد أجل غير مسمي - سوف تتكون لهؤلاء المنكوبين دولة. أو تتكون للباقين منهم.

وماذا فعلت الهيئات الدولية؟ لا شئ. أكثر قلوبهم حنواً. تنظر إلي المأساة وتتحسر! أو تعد بأنها ستنظر في الأمر فيما بعد! وماذا عن الآن؟ وعن خسائر وضحايا كل يوم؟!

أليست هناك مسئولية أمام الضمير؟ وأمام الله؟

***

يبدو أن الضمير العالمي مشغول بأمور أخري!

أو هو ضمير غائب. أو ضمير مستتر. كما يقول علماء النحو!!

كل تلك المآسي. ولا يتدخل أحد! وكل تلك الصرخات. ولا يسمع أحد! ما أعمق تلك العبارة التي قالها سليمان الحكيم "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين. يصرخ هو أيضاً ولا يستجيب الرب له".

أين العامل الانساني الذي يتحرك لنجدة المنكوبين والمطرودين من ديارهم؟ اننا نري العامل الانساني في جمعيات الاسعاف والصليب الأحمر والهلال الأحمر. وفي اغاثة البلاد التي تجتاحها المجاعات والأوبئة. ولكن أين الإغاثة في المعارك والحروب؟!

لا شك أن الله يطلب إغاثة من لا مغيث له. وإعانة من لا معين له. وإنقاذ من لا منقذ له.

***

الحروب هي أيضاً إهدار للخير الذي وهبه الله للعالم.

إن الله يريد الخير للعالم. ولكن يبدو أن العالم لا يريد الخير لنفسه. فالله يعطي. والبشر يبددون ما يعطيهم الله إياه!!

لقد أعطي الله للبشرية من الخيرات ما يكفي حاجة الجميع. ولكن كم من الخيرات قد بددها الناس في الحروب والنزاعات. وفي الهدم والتخريب. بل وفي الفساد أيضاً حيث يفسد الناس صحتهم ومالهم. ويبددون مالهم بعيش مسرف!

ولعل الملائكة في السماء يعجبون من أهل العالم وهم هكذا!

كم من المليارات انفقت في الحرب ما بين العراق وايران. وكم من المليارات انفقت في حرب الخليج الأولي؟! وكم ينفق الآن؟! أما كان الأجدر ان ينفق كل هذا علي خير البشرية؟

بل كم يُنفق أيضاً علي التدخين والمخدرات. وعلي الفساد واللهو؟! ان الناس يضيعون أنفسهم. وينفقون من مالهم علي ضياعهم!! الأفراد يفعلون هكذا في مجال معين. والدول أيضاً تنفق وتضيع في مجال آخر. وملائكة السماء تنظر. وتحزن لأجل هؤلاء وأولئك!!

***

وكثير من الناس ينظرون إلي كل هذا الضياع. ويسألوننا:

هل هذا الذي يحدث هو إنذار بنهاية العالم؟

هل الحروب والصراعات والانقسامات. وهل اليورانيوم وسائر الأسلحة النووية. والغازات السامة. وكل الأسلحة البيولوجية وباقي الأسلحة المدمرة هي انذار بأن العالم سوف يهلك بعضه بعضاً؟ وهل ما يصيب العالم من زلازل متتابعة ومن فيضانات وكوارث طبيعية. يضاف إليها الأوزون في الشمس.

هل كل ذلك دليل علي غضب الله علي العالم. وسينهيه عن قريب؟!

وكم إذن غضب الله علي ما في العالم من فساد خلقي. وانحلال فكري. ومن الحاد وما سمعناه عن "عبادة الشيطان".. وما وصل اليه العلم من غرور. حتي شاء أن ينافس الله في الخلق. و يتدخل في النسل عن طريق الاستنساخ والبويضات المخصبة والأرحام المستأجرة وغير ذلك من أمور وأمور لا شك انها تغضب الله.. مع انحراف الكثيرين إلي الشذوذ!

ان العالم يقضي علي نفسه بفساده الذي يعرضه لغضب الخالق. وبالحروب التي يقضي بها البعض علي البعض الآخر. كما يخربون الأرض التي خلقها الله لراحتهم ومنفعتهم.

***

ألا يجعلنا التأمل في كل هذا. أن نرجع إلي الله.

ونصطلح معه. ونطلب إليه أن يرضي عنا نحن خليقته

علينا ان ننظر إلي الحالة السيئة التي وصلت اليها البشرية. وتعرضها لغضب الله. ونسأل: وماذا بعد؟

وننظر إلي الحروب وما تحدثه من خراب. ومن ضحايا القتال والقتل. ونسأل أيضاً: وماذا بعد؟

وننظر إلي الخسائر التي خسرناها حتي الآن. التي مازلنا نخسرها. ونسأل أنفسنا: وماذا بعد؟

ليس العالم محتاجاً إلي نداءات دولية. وإلي اجتماعات ولقاءات. إنما هو محتاج قبل كل شئ إلي التوبة.

إنه محتاج أن يرجع إلي الله.

***

العالم محتاج إلي تجديد في الذهن. وإلي معرفة جديدة.

محتاج أن يعرف ما معني القوة والسيطرة؟ وما معني الحرية وكيفية استخدامها؟ وما معني العلم. وما حدوده؟

ويحتاج العالم ان يفكر في الأبدية أكثر مما يفكر في متعة هذا العالم الحاضر. ويعمل لآخرته بما يرضي الله عنه.

إن كانت الحرب الحاضرة تذكرنا بأبديتنا. وبالصلح مع الله. فإن هذا يكون خيراً لنا وخيراً للعالم.