فوائد النسيان

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

27/5/2003

جريدة الجمهورية

 

 

مما لا شك فيه أن بعض النسيان له أضراره:

كأن ينسي الإنسان ما عليه من واجبات يلزم أن يؤديها. أو كأن ينسي التلميذ في وقت الامتحان ما قد استذكره من دروس.

ولعل أخطر أنواع النسيان هو مرض الزهايمر:

حيث يفقد الإنسان ذاكرته بالتدريج. إلي أن يصبح شخصاً بلا ماض. بلا علم ولا معرفة. علي الإطلاق..!

أعرف شخصاً أصيب بهذا المرض منذ حوالي خمسين عاماً. فبدأ ينسي صلواته اليومية. ثم أخذ ينسي أفراد أسرته. إلي أن صار ينسي نفسه أيضاً!! قدّموا له صورته. وسألوه من هذا؟ فلم يعرف!

إنها مأساة أن ينسي الإنسان كل شيء. فلا يذكر شيئاً من الماضي. ولا يذكر أيضاً الحاضر ولا المستقبل..

ولكنني أقصد في هذا المقال النسيان الذي له فوائد.

***

النسيان في عالمنا

1- من أبرز فوائد النسيان أن ينسي الشخص الإساءات التي سبق توجيهها إليه.

وذلك حتي لا يدخل الحقد ولا الكراهية إلي قلبه. وما قد يتبع ذلك أحياناً من رغبة في رد الاساءة بمثلها فلو كنا لاننسي إساءات الناس إلينا. لكانت نفوسنا. وقلوبنا تتعقد من جهتهم. وتظل إساءاتهم حاجزاً ما بين قلوبنا وقلوبهم. ولهذا لا يكفي فقط ان نغفر لهم ما قد فعلوه أو قالوه. بل ان ننسي لهم كل ذلك. وهكذا قيل في المثل الانجليزي

Not Only to forgive but rather to forget

ولهذا سمح الله ان ننسي. وأصبحت للنسيان فائدته..

***

2- هناك فائدة أخري للنسيان. وهي أن ننسي الأعمال الفاضلة التي فعلناها. حتي لا ندخل في خطيئة البر الذاتي:

حتي لا يفتخر الإنسان بما فعله. ويكبر في عينيْ نفسه. ويحب المديح والكرامة. وان ينال مكافأة علي الأرض لقاء ما فعل. ويكون أيضاً حكيماً أو باراً في عينيْ نفسه فياليت كل إنسان ينسي الفضائل التي عملها. من أجل انشغاله بفضائل أخري يريد أن يعملها..

ينسي الخير الذي فعله. مفكراً في خير أعظم يجب عمله.

بل ينسي أيضاً أنه هو الذي فعل ذلك الخير.

ناسباً إياه إلي نعمة الله التي أعانته علي عمله. وليس إلي شخصه هو وإلي قوته وتقواه. وحتي في داخل نفسه. يقول باستمرار: لا أنا بل نعمة الله العاملة معي..

***

3- من فوائد النسيان أيضاً. أن ننسي للناس نقائصهم وعيوبهم.. فلا تثبت باستمرار في ذاكرتنا.

وذلك حتي لا ندينهم بألسنتنا. ولا حتي في الفكر والقلب ولا يصغر قدرهم في نظرنا فنحتقرهم أو علي الأقل لا نحترمهم وحتي لا نقارن بين مستوانا العالي "!!" ومستواهم السييء.. فتدخل في قلوبنا الكبرياء والخيلاء بالمقارنة..

وإذ ننسي أخطاء الناس ونقائصهم. ننجو من خطيئة اخري. وهي أننا لا نلوث سمعتهم بألسنتنا. ولا نتخذهم مادة للنقد والتشهير. ولا تكون أنفسهم رخيصة في أعيننا.

***

4- ومن فوائد النسيان. أن ينسي الإنسان ذاته في كل ما يعمله. ولا تصبح ذاته هي الهدف..

وهنا يدرك فضيلة "إنكار الذات"

ويصبح هدفه هو مجد الله علي الأرض. ويصبح هدفه هو الخير وسعادة المجتمع الذي يعيش فيه.

أما ذاته هو. فينساها تماماً أثناء عمل الخير

لأنه لا يفعل الصلاح من أجل مجد تناله ذاته. أو من أجل كرامة له أو مصلحة خاصة.

 

***

5- ومن فوائد النسيان. أن ينسي الإنسان التافهات. فلا تشغل فكره. بل ينشغل بما هو أهم...

ففي مجري حياتنا اليومي. تقابلنا أمور كثيرة تافهة لا تستحق منا أن تشغل أذهاننا أو أحاديثنا. أو أن نعطيها اهتماماً يضيع فيه وقتنا الذي يمكن أن نستغله فيما هو اهم. أي فيما يبني أنفسنا وأنفس الآخرين أيضاً.

لأن ذهن الإنسان له طاقة معينة من حيث قدرة ذاكرته فمن الصالح لنا ألا نشغل ذاكرتنا أونجهدها في حفظ ما لا يعود عليها بأي نفع من معلومات تافهة قد تستقر في العقل الباطن أيضاً ويسرح بها الفكر.

لذلك سمح الله لطبيعتنا بالنسيان. لكي ننسي الأمور التافهة. ولا نستبقي في عقلنا إلا ما هو مفيد..

مثال ذلك إنسان عنده كمبيوتر له طاقة معينة. فلا يكون من صالحه أن يسجل فيه إلا ما هو مفيد.. أو معه كاسيت ريكوردر. يمحو من اشرطته أحياناً ما قد سبق أن تسجل فيها. لكي يسجل بدلاً منها أموراً أكثر أهمية.

***

6- كذلك هناك أمور ضارة. يحسن بنا أن ننساها لمنفعتنا

كأمور سجلتها الحواس من نظر وسمع. وقد تكون معثرة أو أمور تسجلت في الذاكرة من معلومات ضارة في ذاتها أو مصدر لضرر. عبارة عن معارف متعبة يقول العقل النقي "ليتني ما عرفتها"! أو صور رسخت في العقل الباطن. يصلي الإنسان أن تمحي منه أو أخبار مزعجة أو مؤلمة.. كل ذلك يذكرنا بفوائد النسيان.

***

ننتقل من هذا كله. إلي فوائد النسيان في الأبدية

النسيان في الأبدية

أمور كثيرة ينبغي أن ينساها الأبرار. حفاظاً علي طهرهم ونقاوتهم. وحفاظاً علي فرصهم في العالم الآخر. مثال ذلك

هل في السماء سنتذكر كل الخطايا التي حدثت علي الأرض؟!

سواء الخطايا التي حدثت من غيرنا بكل صورها البشعة. أو الخطايا التي أرتكبناها نحن. وندمنا عليها. وتُبنا عنها. وغُفرت لنا.. وكيف اذن نحتفظ بنقاوة ذهننا في الأبدية. إذا استقرت فيه صور كل الخطايا الأرضية بكافة أنواعها؟!

لاشك أننا سننسي في الأبدية معرفة الخطية ويكون هذا من فوائد النسيان.

لقد دخلت معرفة الخطية إلي العالم بسقوط أبوينا الأولين آدم وحواء. وبسقوطها فقدا بساطتهما الأولي وبراءتهما وبالتالي بدأ نسلهما يعرف الخطيئة وأنواعاً كثيرة منها.. تلوث العقل البشري بهذه المعرفة.. فهل من المعقول أننا سندخل إلي قدسية السماء وعالم الابرار بعقل لوثته معرفة الخطيئة؟!

يقينا أن الله سوف ينعم علينا في سمائه بنسيان تلك المعرفة الملوثة. وينزع من عقولنا كل ما تسجل فيهامن صور الخطيئة ليس فقط يزول منا الانفعال بالخطيئة ولذتها. بل تزول منا أيضاً معرفة الخطيئة. ونصبح في نسيان كامل من جهتها. كالنسيان الذي ينتج عن الزاهايمر. والقياس مع الفارق..

***

في الأبدية حيث يعيش الأبرار في طهر كامل سوف لا توجد خطيئة. لا بالعمل. ولا بالفكر. ولا بمجرد المعرفة..

وإن كان الإنسان عندما يتوب يطلب من الله أن يمحو له الخطيئة من ذهنه وقلبه. بكل صورها وانفعالاتها. فلا توجد في حياته فيما بعد.. فكم بالأكثر يكون ذلك في عالم الأبرار.. فالخطيئة كما تمحي هاهنا من أعمالنا بالتوبة. كذلك سوف تمحي تماماً من أفكارنا في العالم الآخر.. وهذا من فوائد النسيان.

***

في الانتقال النهائي من عالم إلي عالم آخر. يصير نسيان العالم الأول وكل ما فيه

حيث يمحو الله من العقل الباطن للإنسان كل ما ترسب فيه من قصص هذا العالم وأخباره وأحداثه وصوره وعلاقاته حتي يتفرغ للعالم الجديد. والحياة فيه مع الله وملائكته وقديسيه. في جو مختلف تماماً عن هذا العالم الحاضر وفي أعماقه يقول للرب تلك الأبيات من النسكيات:

قد تركت الكل ربي ما عداكْ             ليس فى ساحة الحب سواك

قد نسيت الأهل والأصحاب بل          قد نسيت النفس أيضاً فى هواك

قد نسيت الكل في حبك يا              متعة القلب فلا تنسي فتاك

هي ذي العين وقد أغمضتها             عن رؤى الأشياء على أن أراك

وكذا الاذن لقد أفرغتها          من حديث الناس حتى أسمعك

***

من فوائد النسيان في العالم الآخر. أن يمحو الله من ذاكرتنا كل ما يتعلق بماديات هذا العالم. حتي ننشغل بعالم الروح

فننسي الاشياء التي تُري. لكي نتمتع بما لا يُري.. أي بما لم تره عين. ولم تسمع به أذن. ولم يخطر علي قلب بشر. ما أعده الله للذين أحبوه علي الأرض..

إن القلب المتعلق برفاهية هذا العالم ومادياته. وبملاهي هذا العالم وصخبه وضوضائه. لا يجد متعة في الأبدية. بل من نعمة الله عليه ان ينسيه ملاذ هذه الحياة الأرضية المادية. لكي يتذوق لوناً آخر من المتعة في الأبدية هو متعة الروح.

***

بل من فوائد النسيان. أن ينسي الإنسان ايضاً أقاربه وأصحابه الذين لم يدخلوا ملكوت الله ونعيمه..

طبيعي أنه ليست كل أسرة. ولا كل جماعة. أعضاؤها كلهم من الأبرار. فإن دخل إنسان بار إلي النعيم الأبدي. ولم يجد كل أفراد أسرته هناك. ولا كل أصدقائه. هل يحزن عليهم مشتاقاً إليهم. بينما النعيم الأبدي ليس فيه حزن؟!

كلا. بل من نعمة الله عليه أن ينسي كل الذين لم يحيوا حياة البر علي الأرض. ولم يستحقوا النعيم. أياً كانت صلتهم السابقة به علي الأرض.. ينساهم جميعاً.. حتي ان كان فيهم أب له أو أم أو ابن أو زوجة.

إنها نعمة النسيان في الأبدية

***

من نعمة الله علي الناس في الأبدية. أنهم سوف ينسون ما كانوا يستعملونه علي الأرض. وأصبحوا لا يستعملونه في العالم الآخر..

من ذلك بعض الهوايات مثلاً.. كإنسان كانت تستهويه أنواع معينة من الرياضة: كالسباحة. أو لعب الكرة. أو الشطرنج. أو المصارعة. أو حمل الاثقال.. هل سيجد كل ذلك في الأبدية؟ وهل يكون له نفس التعلق بشيء من هذه الهوايات هناك؟ وان لم يجدها. هل سيحزن أو يتضايق؟! أم أن الله سينسيه كل ذلك ليمنحه متعاً أخري تناسب الحياة في السماء..

هنا واعتذر لنجوم الرياضة الذين يفرحون بفوز الفريق الذي يحبونه. كما اعتذر لنجوم الفن الذين يفرحون أيضاً بنجاح رواياتهم. ان كانوا لا يجدون في الأبدية لعباً أو تمثيلاً..!

كما لا يقدرون ان ينسوا متعة اللعب!!