الخيـــــــــــر [2]

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

2/12/2003

جريدة الجمهورية

 

 

 

حينما نتكلم عن الخير. إنما نقصده بمعناه النسبي:

أي بالنسبة إلي ما نستطيع إدراكه من الخير. وما نستطيع عمله من الخير.. أي الخير بقدر فهمنا البشري له. وبقدر طاقته المحدودة في ممارسته.

والإنسان الخير يعمل باستمرار علي توسيع طاقاته في عمل الخير.

ولا يكتفي بالخير الذي يعمله. من أجل اتجاهه نحو خير أكبر يهفو إلي عمله. وفي اشتياقه نحو اللامحدود. يشعر في أعماقه بأن هناك آفاقاً في الخير أبعد بكثير مما يفهمه حالياً.

***

وربما بعدما نخلع هذا الجسد المادي. وندخل في عالم الروح.. سننظر إلي ما عملناه قبلاً من خير. فنذوب خجلاً. ونتواري منه حياء!!

فكم بالأولي نظرتنا إلي ما ارتكبناه من شر؟!

لذلك فإن مستوي ا لخير عند القديسين. أعلي من مستواه عند البشر العاديين. ومستوي الخير عند الملائكة أعلي بكثير من مستواه عند البشر أجمعين. أما مستواه عند الله فهو غير محدود وغير مدرَك.

إن الله هو صاحب الخير المطلق. وأعمالنا نحن تعتبر خيراً. بقدر ما تدخل فيها يد الله.. وبقدر ما نسلم إرادتنا إلي مشيئة الله الصالحة. فيعمل الله فينا. ويعمل الله بنا. ويعلم الله معنا.

ونكون نحن مجرد أدوات طيّعة في يد الله الكلي الحكمة والكلي القداسة.

***

وبقدر بعدنا عن الله. نبعد عن الخير.

نعم. يبعد الإنسان عن الخير. عندما يعلن استقلاله عن الله..!

أي عندما يرفض أن يقود الله حياته. وعندما تبدأ إرادته البشرية أن تعمل منفردة بعيداً عن الله!

أما القديسون فإنهم يحيون حياة التسليم. التسليم الكامل لعمل الله فيهم.. هؤلاء لا تكون عليهم دينونة في اليوم الأخير.. وكأن كلاً منهم يقول للرب في دالة الحب: "علي أي شيء تحاكمني يارب. وأنا من ذاتي لم أعمل شيئاً؟! كل شيء بك كان. وبغيرك لم يكن شيء في حياتي مما كان.. فيك كانت حياتي. وفي يديك استسلمت إرادتي".

***

إذن حياة الخير الكامل. هي حياة التسليم:

هي الحياة التي فيها يسلم نفسه كلية لله: كل فكره. وكل مشاعره. وكل إرادته. وكل عمله. فإذا فكر. يكون فكره متمشياً مع مشيئة الله. وإذا عمل. فإنما يعمل ما يريده الله. أو بالحري ما يعمله الله بواسطته..فهل أعمالك وأفكارك أيها القاريء العزيز هي من هذا النوع؟ أم هي أعمال بشرية بحتة. قابلة للزلل وللخطأ والسقوط؟

***

 

والخير كالماء.. دائماً يمشي. ولا يقف..

فإن وقف. أصابه الركود!

لذلك فالخير باستمرار يمتد إلي قدام. وينمو ويكبر. وباستمرار يتحرك نحو الله ونحو الناس.. لا يتوقف منتظراً مجئ الناس إليه يخطبون ودّه. بل هو يتجه إليهم. ويذهب إليهم دون أن يطلبوه. ولأنه الخير. فيه عنصر المبادرة..والخير فيه متعة. حتي إن كان مملوءاً آلاماً. فآلامه حلوة. تريح القلب. ويجد الإنسان فيه عزاء.

***

والخير لا يشترك إطلاقاً مع الشر. لأنه أية شركة للنور مع الظلمة؟!

لذلك نحن لا نوافق مطلقاً علي المبدأ المكيافيلّي القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة! أي أن الغاية الخيرّة يمكن أن تكون تبريراً للواسطة أو الوسيلة الخاطئة!

إن وسيلة الخير ينبغي أن تكون خيراً مثله. والخير لا يقبل وسيلة شريرة توصل إليه. إذ كيف يجتمع الضدان معاً؟!

فالذي يلجأ إلي الكذب لينقذ إنساناً "بشهادة زور".. والذي يلجأ إلي القسوة والعنف. لكي ينشر بهما الحق أو ما يظنه حقاً.. والذي يلجأ إلي الرشوة. لكي يحقق لنفسه أو لغيره خيراً.. والذي يلجأ إلي الاجهاض لكي يستر علي فتاة حملت سفاحاً.. كل أولئك قد استخدموا وسائل شريرة. لكي يصلوا بها إلي الخير أو إلي ما يظنونه خيراً.

***

ولكن لعل البعض يسأل:

وماذا نفعل إذن. إن كنا مضطرين إلي هذه الوسائل؟!

أقول إن هذه كلها طرق سهلة وسريعة. يستخدمها من يريد أن يصل دون أن يبذل مجهوداً للوصول إلي الخير بطريقة سليمة لا تتعب الضمير. ولا يكسر فيها وصية من وصايا الله. أو قانوناً من قوانين الدولة.

فالكذب مثلاً حل سهل وسريع. يصل به الشخص عن طريق خداع سامعه.. أما الإنسان الخيرّ الحكيم. فإنه يفكر ويجهد ذهنه بعيداً عن هذه الوسيلة الخاطئة.. ويقيناً أنه سيصل إلي وسيلة أخري تريح ضميره. وتجعله موضع ثقة ممن يتعامل معهم.

كذلك العنف والقسوة: كل منهما حلّ سهل وسريع.. وفي نفس الوقت منفّر يخسر فيه صاحبه محبة الناس. ويلجأ إليه من لا يريد أن يتعب نفسه في الوصول إلي حلّ آخر لطيف ووديع.

***

إن الخير يريدك أن تتعب من أجل إتمامه

ولا تلجأ إلي الحلول السهلة الخاطئة..

وبقدر تعبك في سبيل الخير. تكون مكافأتك عند الله.. وبهذا المقياس تقاس خيريتك. إن الحل السهل أو التصرف السهل. يستطيعه كل إنسان. أما الذي يجاهد ويتعب للوصول إلي تصرف سليم. فإنه يدل علي سلامة ضميرة وحبه للخير.

قال السيد المسيح "ادخلوا من الباب الضيق. لانه واسع هو الباب. ورحب هو الطريق الذي يؤدي إلي الهلاك. وكثيرون يدخلون منه!"

إذن ينبغي أن نتعب من أجل الخير. إن كنا نحب الخير..

وينبغي أيضاً أن نجد لذة في هذا التعب.

***

عليك إذن أن تفحص الوسائل التي تستخدمها للوصول إلي الخير. وتتأكد من أنها كلها وسائل سليمة. وتفعل ذلك بضمير صالح أمام الله. وبدون محاباة لنفسك. وبدون استخدام لأسلوب التبريرات.. ذلك لأن طرقاً رديئة قد يسلكها البعض من أجل محبتهم للخير!!

وكما قال البعض: كم من جرائم ارتكبت باسم الفضيلة!!

إن الشيطان عندما يفشل في إقناعك بطريق الشر. ويجدك مصراً علي السير في طريق الخير. لا مانع عنده من أن يقول لك: خذني في طريق الخير معك!.. وهكذا قد تسير في طريق الخير. ويسير الشيطان معك: يرشدك في الطريق. ويوجهك. ويقدم لك الوسائل والخطط والحلول. ويقنعك بها!!

***

إن الشيطان حينما يفقد السيطرة علي الهدف أو نوع العمل. قد يقنع بمحاولة السيطرة علي الوسيلة..

أما أنت أيها القارئ العزيز. فلا تترك للشيطان شيئاً فيك. ولا تسمح له أبدا في الدخول معك. والاشتراك في مشروعاتك الخيّرة. ولا في خططك ووسائلك. ولا تجعله يكسب أية جولة في صراعه معك..

واطلب من الله أيضاً أن تكون نتائج عملك خيراً.

لا شك أنك قد لا تستطيع أحيانا أن تتحكم في النتائج. وقد تتدخل في الأمر عوامل شريرة خارجة عن إرادتك. محاولة أن تفسد نتائج مجهوداتك الخيّرة.

إنك كما تجاهد بكل قوتك في أن تعمل الخير. كذلك فإن الشيطان وأعوانه يعملون بكل قوتهم لكيما يعرقلوا عملك. ولكن لا تيأس..

لهذا قلت إن العمل الخيّر. تكون نتائجه بقدر الإمكان خيراً أيضاً.

***

اعلم أيضاً أن الذي يحب الخير. يحب أن جميع الناس كذلك يعملون الخير. ويشجعهم عليه.

والمنافسة في عمل الخير. ليس فيها شيء من الذاتية والأنانية بل فيها التعاون والمشاركة والفرح بالنتيجة بغض النظر عمن هو الشخص الذي أوصل إلي هذه النتيجة.

ان محب الخير. يفرح حتي لو رأي أن جميع الناس يفوقونه في عمل الخير. ويكون بذلك سعيداً.. المهم عنده ان يري الخير. وليس المهم بواسطة من؟ به أو بغيره.

لذلك فإن عمل الخير بعيد عن الحسد والغيرة.

***

والإنسان الخيّر يقيم في حياته تناسقاً بين فضائلة. فلا تكون واحدة منها علي حساب فضيلة أخري. تنقصها أو تلغيها!

خدمتة مثلا للمجتمع. لا تطغي علي اهتمامه بأسرته . ونشاطه لا يطغي علي أمانته لعمله. وحتي صلواته وعباداته. لا يصح أن تفقده الأمانة تجاه باقي مسئولياته.

إن الفضيلة التي تفقدك فضيلة أخري. ليست هي فضيلة كاملة أو خيّرة. إنما الفضائل تتعاون معاً. بل تتداخل في بعضها البعض.

***

هكذا نتعلم من الله نفسه تبارك اسمه. فعدل الله مثلاً. لا يمكن أن يتعارض مع رحمته. بل لا ينفصل عنها. فعدل الله عدل رحيم. ورحمة الله رحمة عادلة. عدل الله مملوء رحمة. ورحمة الله مملوءة عدلاً. ولا نستطيع أن نفصل بينهما.

وعندما نقول عدل الله ورحمة الله. فليس من جهة الفصل نتكلم. إنما من جهة التفاصيل. لكي تفهم عقولنا القاصرة عن فهم اللاهوتيات.

***

نقول عن الخير أيضاً هو عمل إيجابي. وليس مجرد عمل سلبي.

ليس هو مجرد عمل سلبي يهدف إلي البعد عن الشر. بل هو إيجابية في محبة الخير وعمله ونشره.

فالإنسان الخيّر. ليس هو فقط الذي لا يؤذي غيره. بل هو بالحري الإنسان الذي يبذل ذاته عن غيره. وليس هو فقط الشخص الذي لا يرتكب خطية. إنما بالحري الذي يفعل برا.

***

والإنسان الخيّر هو الذي يصنع الخير مع الجميع...

حتي مع الذين يختلفون معه في الجنس أو اللغة أو اللون أو المذهب أو العقيدة. إن الخير الذي فيه يعم الكل.

وقد اعطانا الله أمثلة كثيرة عن ذلك من الطبيعة:

فالشمس ترسل شعاعها ونورها في كل موضع في القصر الجميل. كما في الكوخ الفقير. في الحديقة الباستة. كما في الزقاق القذر.

الينبوع الحلو الصافي. يشرب منه الكل بلا استثناء.

والشجرة الوارفة يستظل بها كل من يجلس تحتها: غنيا كان أم فقيراً. خاطئاً كان أم باراً.

كذلك البلبل يمنح أغاريده لكل من يسمعه. والورد يمنح شذاه لكل من يمر عليه.

ليس ولا واحد من هذه الأمثلة يسأل من يتمتع بعطيته عن جنسه أو لونه أو ديانته.

إن الخير يعطي دون أن يتفرس في وجه من يعطيه ويحب دون أن يحلل دم من يحبه

هو للكل. والكل عنده سواء....