الذات
وإنكار الذات
بقلم
قداسة البابا
شنوده الثالث
4/2/2003
جريدة
الجمهورية
محبة
الذات تقف
حائلاً
منيعاً ضد
حياة البذل والعطاء
:
مثال ذلك
كل المصابين
بالبخل
والتقتير.
والذين لا
يدفعون حق
الله في
أموالهم من
أجل انفاقه
علي الذات
واللذات. غير
أن المحب لذاته
قد يعطي. ولكن
في حدود معينة
محدودة لا تصطدم
بذاته
ورغباتها. وهو
قد يعطي من
فضلاته وليس
من أعوازه
وحتي في خدمة
الآخرين- إذا
وافق علي
خدمتهم- لا
يعطيهم إلا من
فضلات وقته.
كما يعطي
الفقراء من
فضلات ماله أو
مقتنياته..
إنه حريص جدا
علي ما يخص
ذاته ويلزمها.
وفي سبيل ذلك
لا يبالي
باحتياجات
الآخرين. ولا
يشعر بدافع
انساني في
داخله يدفعه
أو يرغمه علي
إعانتهم.
***
ومهما
أعطي. فإنه
يعطي من خارج
ذاته. ولا
يمكنه مطلقاً
أن يبذل ذاته.
أو يضحي بذاته
من أجل غيره.
ولا يمكنه
أبداً أن
يفتدي غيره
بنفسه. وإذا
وجد خطراً يلحق
به إذا ما
دافع عن غيره.
يضع حداً
لدفاعه أو يمتنع
عن ذلك. لأن
ذاته هي الأهم
في نظره! حقا
ما أبعد محبة
الذات عن
التضحية وعن
الفداء. وعن الاستبسال
في بذل الذات
من أجل
الآخرين.
إذا كان
الأمر هكذا.
فماذا نقول عن
الاستشهاد؟
المحب
لذاته لا
يستطيع أن
يقدم علي الاستشهاد.
لأن نفسه
عزيزة عليه.
ولهذا كان من
صفات الشهيد
أنه يتخلص
أولاً من محبة
الذات ومن
الاهتمام
بمثل هذا
الاهتمام
الباطل الذي يعوق
بذلها لأجل
غيرها.
***
إلانسان
المفكر لذاته-
حينما يعطي-
إنما يعطي خير
ما عنده.
ذلك لأنه
لا يحب الخير
لذاته. بقدر
ما يحب الخير
للغير.
والمعروف أن
المحبة لا
تطلب ما لنفسها.
المحبة
المنكرة
لذاتها. هي
مثل الشمعة
التي تذوب لكي
تضئ للآخرين.
ومثل حبة
البخور التي
تتقد وتبذل
ذاتها. لكي
تقدم رائحة
عطرة لمن
حولها..
المحب
لذاته لا
يمكنه أن يعطي
خير ما عنده.
بل يحتجزه
لنفسه. أما
الذي ينكر
ذاته. فمن
أعمق الأمثلة
له: الأم التي
تعطي كل ما
تستطيع
اعطاءه
لطفلها. الذي
من أجله تبذل
كل ما عندها
لاسعاده. ولا
تفكر اطلاقاً
في نفسها أمام
احتياج طفلها.
أما أسوأ
ما في محبة
الذات- في
مجال العطاء-
أن يعطي
الانسان
شيئاً. ثم
يندم علي ذلك
فيسترجعه!
***
الإنسان
المحب لذاته.
يجد أحياناً
أنه لابد أن
يقف ضد
الآخرين.
لإثبات ذاته
وتفوقه. وأول
خطوة في ذلك
هي المنافسة:
المنافسة
إن كانت
مباراة في
النفع العام.
بحيت يتنافس
الكل في خدمة
المجتمع.
حينئذ تكون المنافسة
خيرا.. أما إذا
كانت محاولة
لتحطيم الآخر.
لاثبات التفوق
عليه. فهنا
تظهر الذات
ومعها عدم
محبة الآخرين.
حسن أن يتباري
الجميع في
التفوق. أما أن
يكره شخص من
يتفوق عليه.
ففي هذه
الحالة تظهر
خطورة محبة
الذات.
هنا تقود
الذاتية إلي
الحسد
والغيرة وإلي
الكراهية
إنها الغيرة
الطائشة التي
تريد أن يصل
إليها وحدها
كل شئ. ولا يصل
إلي غيرها شئ!!..
إنها
الأنانية
التي تريد بها
الذات أن تكون
هي وحدها التي
تكبر. والتي
تملك! وهي
وحدها التي
تتفوق والتي
تمدح وهي التي
تسلط عليها
الأضواء ولا
تسلط علي غيرها.
وإلا...
وإلا تبدأ
الذات حرباً
علي كل من
ينافسها. أو حتي
علي كل من
يسير في نفس
الطريق معها!!
إنها
مشكلة الذات
التي تريد أن
تكبر وحدها.
وفي ذلك تثير
جوا ضد من
يعمل في نفس
مجالها. دون ما
عيب فيه. ودون
أن يقترف ذنبا
ضدها. أو ضد
غيرها!.. كل
عيبه هو
تفوقه!!
إنها
مشكلة
المتفوقين في
كل مجال. ممن
يحسدهم علي
تفوقهم!
وليس سهلا
علي هؤلاء
المتفوقين أن
يمتنعوا عن
التفوق. إذا
كان الحسّاد
يتضررون من
تفوقهم! ما
ذنب البلبل
الغريد إن كان
صوته أجمل من
صوت ذلك الصقر
المتوحش؟!
***
وتشبه
مشكلة
المتفوقين.
مشكلة الذين
يحظون بمديح
الناس
وتقديرهم. ممن
يريدون
احتكار المديح
لأنفسهم
وحدهم!
لا يكتفي
المحب لذاته
بأن يحب مديح
الناس
واهتمامهم به.
بل أخطر من
هذا. أنه يريد
أن يكون
الوحيد الذي
هو موضع
الاهتمام
والاحترام
والمديح.
وبالتالي
يقوده هذا
الشعور إلي
معاداة كل شخص
في مجاله
يتمتع بتقدير
الآخرين.
ومن هنا
تأتي
الصراعات بين
أصحاب المهنة
الواحدة. أو
الذين يعملون
في نشاط واحد.
أو يتنافسون
علي رئاسة.
بمحبة
الذات ينظر كل
منهم إلي
الآخر بعين
نقادة. يبحث
له عن عيوب
تنقص من قدره
ومن قدراته لكي
ينشرها.
***
الذي يقع
في محبة
الذات. لا
يمكن أن يأتي
بالعيب علي
نفسه. وإنما
باستمرار
يلقي
بمسئولية أخطائه
علي غيره.
إذا دخل
إلي امتحان
ورسب فيه:
فإما أن
الأستاذ الذي
وضع الأسئلة
كان قاسياً في
أسئلته. وإما
أن المصحح لم
يكن رحيماً في
تصحيحه! وإما
أن الله لم
يسنده في
الامتحان. علي
الرغم من كل
الصلوات التي
رُفعت إليه!
ولذلك
فإنه يري نفسه
مظلوماً
باستمرار. فهو
إما أن يصل
إلي غرضه. أم
أنه دائماً
يسخط ويتذمر
ويشكو.
يشكو
والديه. ويشكو
المجتمع.
ويشكو الزمان
الذي يعيش
فيه. ويشكو
معاملات
الآخرين.
ويشكو أسباباً
عديدة لعدم
وصوله إلي
غرضه. وينتقد
كل الذين
وصلوا
وأساليبهم
التي ارتفع عن
مستواها! أما
ذاته. فهي
الوحيدة التي
لا يشكوها.
والوحيدة
التي بلا عيب!
***
من أجل هذا.
فهو لا يجاهد
ليصلح أي عيب
فيه. لأن ذاته
تبدو أمامه
بلا عيب!!
وهكذا إذ
تستمر متاعبه.
ويستمر عدم
اصلاحه لنفسه.
فإنه بالتالي
يستمر في
شكاواه التي
لا تنتهي.. إن
كان رئيساً
لعمل. يشكو من
أخطاء مرؤوسيه.
وإن كان
مرؤوساً يشكو
رؤساءه
وزملاءه. وإن
كان ولا واحد
من هؤلاء قد أخطأ.
حينئذ يشكو من
الأنظمة
واللوائح
والقوانين!
المهم أنه
يدافع عن نفسه
إن وقع في خطأ.
ويحاول أن
يغطيه. إما
بالكذب. أو
بتبريرات
عديدة. أو
بإلقاء
التبعة علي
غيره أو يقول
إنه ما كان
يقصد! وبدلاً
من أن يصلح
ذاته. فإنه
يغطيها!
***
والذي يحب
ذاته. يكون
حساساً جداً
نحو كرامته.
ويعامل نفسه
والناس
بميزانين
مختلفين!
يدقق جداً
في تحليل
وتضخيم أية
ملاحظة توجه اليه
بينما لا
يبالي بما
يقوله هو
للناس. ويجب أن
يتعامل
بأسلوب لا
يعامل به
غيره! هو حساس
نحو كرامته.
ولكنه ليس
حساساً نحو
كرامة الناس
في معاملته هو
لهم. فمتي وكيف
ينكر الإنسان
ذاته
ويدينها؟
***
مغبوط هو
الإنسان الذي
يراقب ذاته.
ويمنعها كلما
تشرد. وكلما
تقويها شهوة
خاطئة أو
خطيئة معينة..
حقا إن ضبط
النفس هو من
الفضائل
الأساسية في حياتنا...
فإن وجدت نفسك
تميل إلي حب
الظهور. وإلي
الإعلان عن
ذاتها. والسعي
وراء العظمة
والسيطرة.
فواجبك أن
تمنعها...
وثق أن
الذي يدلل
نفسه. إنما هو
يهلكها
ويضيّع
نصيبها في
الأبدية
السعيدة. كما
أن الذي يتراخي
في ضبط ذاته.
يمكن أن تقوي
عليه ذاته.
وتتمرد علي
سلوكه الروحي.
بعكس الذي
يدرب ذاته
ويروّضها في
دروب الفضيلة.
وثق أن قهر
الذات. وضبط
النفس. تكمن
وراءهما لذة
روحية لا
تعادلها أبدا
كل ملاذ
الجسد...
***
وأسمي
بكثير من قهر
الذات: بذل
الذات
سواء بذل
الذات من أجل
الله. أو من
أجل الآخرين.
أو من أجل أية
فكرة سامية
نافعة.
والذين
سجّل التاريخ
أسماءهم.
ووضعهم في
قممه. عاشوا
في تعب وكد. في
جهد وصبر. باذلين
وقتهم
وراحتهم
وصحتهم من أجل
الهدف النبيل
الذي سعوا
اليه. وكما
قال الشاعر:
إذا كانت
النفوس كبارا
... تعبت في
مرادها الأجسادُ
هؤلاء
اجتازوا
الشدائد
والضيقات.
وأحياناً تعرضوا
إلي
المقاومات أو
إلي السجون.
بسبب اصرارهم
علي تحقيق
الغرض السامي
الذي وضعوه
أمام أعينهم
باذلين الذات
لأجله...
***
وهناك
أمثلة كثيرة
لبذل الذات:
من هؤلاء
المكتشفون
الذين بذلوا
الذات لاكتشاف
قارات لم تكن
موجودة.
والذين دخلوا
غابات وعاشوا
وسط آكلي لحوم
البشر..
والذين بذلوا
الذات في إطفاء
الحرائق.
وانقاذ الناس
من الغرق ومن
الكوارث
الطبيعية.
والذين عاشوا
وسط المرضي بالجزام
وبالسل
وبأمراض
خطيرة معدية.
بهدف علاج كل
هؤلاء. أو
تمريضهم..
كذلك الذين
بذلوا الذات
في مجال
العلم.
معتكفين لهذا
الغرض. ما نعين
أنفسهم من كل
وسائل
الرفاهية. لا
هم لهم إلا
الدراسة
والبحث
والوصول إلي
مايفيد غيرهم
من العلم.
إن من يبذل
نفسه لأجل
الآخرين.
سيجدها
ملتحفة بالنور
في السماء.
***
يذكرنا
موضوع بذل
الذات. بالمثل
الذي يقول:
ما استحق
أن يولد.. من
عاش لنفسه
فقط.
فالذي
يعيش من أجل
غيره. يتعب
ليرتاح غيره.
ويشقي ليسعد
غيره.. هذا هو
الإنسان
الحقيقي في
وضعه المثالي.
مثاله
الأب الذي
يعمل ويشقي
لكي ينفق علي
أولاده
ومثاله
الراعي الذي
يسهر متنبها.
لأجل الحفاظ
علي رعيته.
قديما كان
الملوك
يجلسون في
قصورهم
متنعمين بعروشهم
في رفاهية.
أما الآن
فإننا نري
رئيس الدولة
يتحمل السفر
من بلد إلي
آخر. ويبذل
وقته وجهده في
اللقاءات
والاتصالات
والمفاوضات.
لاسعاد شعبه
إن ذاته ليست
ملكا له. إنما
هي ملك لمن
كرس ذاته لخدمتهم.
إن بذل
الذات يظهر
أيضا في الذين
وضعوا أرواحهم
علي أكفهم.
مجاهدين لأجل
مصالح بلدهم.
لست أقصد
فقط الضباط
والجنود. الذين
خاضوا حروبا
سقط فيها
الكثيرون من
أجل حماية
أوطانهم من
غزو أجنبي أو
من الاحتلال
بل أيضا الذين
قادوا
الثورات
لاصلاح حال
بلادهم. وما
كانوا يضمنون
هل تنجح
الثورة أو
تفشل؟ وهل يكللون
بالنصر أم
يقبض عليهم
ويعدمون وبعض
هؤلاء تحملوا
النفي خارج
البلاد كما في
ثورة سنة 1919
ومنهم من
وقفوا ضد ملوك
وطغاة.
يدافعون عن
المظلومين. أو
يطالبون بحق
شعب قد هضمت
حقوقه.. أو لكي
ينادوا بمبدأ
من المبادئ لم
يبالوا أن
يبذلوا
حياتهم في
سبيله.
***
وإنكار
الذات نجده
كذلك في
ميدانين:
التواضع والزهد
التواضع
في من يفسح
المجال لغيره
ليظهر. دون أن
يزاحم الغير
في طريق
الحياة.. لا
يزاحمهم من
جهة الزمان.
ولا من جهة
المكان.
وإن وجد في
مكان. لا يحسب
نفسه أهم
الموجودين فيه.
ولا يفرض رأيه
علي آراء غيره
ولا يقاطع المتكلم
لكي يتكلم هو..
ولا يتطلب من
الناس احتراما
خاصا يجبرهم
عليه.
فالاحترام
شعور داخل
القلب. لا
يأتي
بالارغام
إنما
بالتقدير الشخصي.
إنك قد
ترغم إنسانا
علي طاعتك.
ولكنك
لاتستطيع أن
ترغمه علي
احترامك! بل
ان الذي ينكر
ذاته. يكون
موضع احترام
أكثر.
كان
الاسكندر
الأكبر في كل
مجده يحترم
الفيلسوف
ديوجين
الزاهد. الذي
ماكان يطلب
منه كرامة أو
أي شيء.