علاج الغضب

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

25/2/2003

جريدة الجمهورية

 

 

هناك طرق عديدة لعلاج الغضب. في مقدمتها الوداعة والاتضاع

فالإنسان المتواضع لا يُغضب أحداً. ولا يغضب من أحد.

الذي يغضب. يعتقد دائماً أنه علي صواب. ولذلك فهو يغضب. لأنه يري أن إساءة قد لحقت به بدون وجه حق. وهكذا نراه يركز علي أخطاء غيره ويثور عليها. بينما المتواضع لا يفكر إلا في أخطائه هو.

غير المتواضع دائماً يبرر نفسه. لذلك يثور علي النقص الذي يُنسب إليه. ويحتج علي ما وُصف به من أخطاء. لا يفكر في علاجها. وإنما يعتبرها إهانات وسبة لا يصح أن توجه إليه. ولهذا فإنه يدافع عن نفسه بكل عصبية. وقد يعود صوته ويحتد. ويصف من أساء إليه بالظلم والكذب والافتراء. والاعتداء علي كرامة الأبرياء!

***

غير المتواضع يكون مغروراً بنفسه. يتبعه شيطان الخيلاء والمجد الباطل.

والمعروف أن شيطان الغرور إذا سار في مكان. يقول له شيطان الغضب: خذني معك.

لذلك نقول: إذا أراد إنسان أن يقاوم الغضب. عليه أولا أن يقاوم محبة المديح والكرامة وكل مظاهر الكبرياء وحب العظمة والمجد الباطل. لأنه إن تمسك بأمثال هذه الأمور. فلابد أن يتعرض للغضب. معتقداً أنه يثور لكرامتك. ويقول له شيطان المجد الباطل: كيف يعاملونك هكذا؟! وكيف تقبل علي نفسك هذا الوضع وهذا الكلام؟! لابد أن تمحو الإهانة التي أصابتك!

أما الإنسان الوديع. فإنه يكون هادئاً باستمرار. لا يثور مهما كانت الأسباب ضاغطة. وتثير من هو حساس للكرامة.

***

من الوسائل الهامة أيضا في معالجة الغضب: الحكمة

ذلك لأنه لا يصلح أسلوب واحد للتهدئة مع جميع أنواع الغضوبين. ومع مختلف الحالات والأسباب.

فمع إنسان قد يصلح السكوت لملافاة الغضب. إن كانت كل كلمة يمكن أن تثير الغضوب بالأكثر. ومع آخر ربما يثيره الصمت! ويحتاج إلي كلمة تهدئة لتصريف غضبه.

والأمر يحتاج إلي حكمة في حالة المواقف المتوترة: متي يتكلم الشخص؟ ومتي يصمت؟ أي ما الذي يهديء الموقف؟ الكلام أم الصمت.

أدرس ظروف الحالة. ونفسية من تتعامل معه. وما تتوقعه من نتائج الصمت أو الكلام.. وحسب تقديرك يمكنك أن تتصرف.

كن حكيماً. وأدرس من تتعامل معه: ماذا يريحه؟ وماذا يهدئه؟

***

مما يعالج الغضب أيضا: أن يتذكر الشخص نتائج الغضب السيئة:

ولعل من أهم هذه النتائج: هزيمة الإنسان من الداخل. وعدم قدرته علي ضبط نفسه. وإعطاء الآخرين فكرة سيئة عنه وعن أعصابه التي تثور بسرعة. وما يصدر عنه من أخطاء أثناء ثورته. كذلك خسارته لمن يثور عليهم وتجرحهم ثورته. وأيضا خسارته لصحته بتعكير دمه. وخسارته لروحياته بوقوعه في خطايا عديدة أثناء غضبه. مع تعقد الأمور بالأكثر نتيجة للغضب.

بالغضب نخسر الأصدقاء. ونزيد من عداوة الأعداء.

وهكذا لا نستبقي صديقاً. ولا نصالح عدواً. وتكون خسارة لنا علي طول الخط. ونوجد في موقف نندم عليه فيما بعد.

وبغضبنا علي من أخطأ إليه. نبرهن علي أننا نشابهه أيضاً في الخطأ. بما يصدر عنا من أخطاء أثناء غضبنا.

فإن اقتنع الإنسان بأن غضبه يضره اجتماعياً وصحياً وروحياً. حينئذ يجد دافعاًَ داخلياً يمنعه من الغضب أو من إكماله.

***

يمكن اتقاء الغضب كذلك بالتفاهم والعتاب

فبالتفاهم يمكن اقناع الطرف الآخر بأنه لا يوجد سبب للخصومة أو للشعور بالإساءة. ويتضح الأمر. ويصل العقل إلي الاقتناع.

وأيضا تتصافي القلوب بالعتاب. علي شرط أن يكون العتاب ودياً. ولا يكون أمام الناس. ولا يكون هدف العتاب أن تثبت للآخر أنه كان مخطئاً وأنك كنت علي حق. فهذا العتاب الضار قال عنه الشاعر:

ودع العتاب فرب شر :. كان أوله العتابا

ولهذا ليكن الهدف من العتاب إراحة قلب من تعاتبه. وليس إثبات أنه علي خطأ. بل ليكن العتاب ممزوجاً بالمودة والحب والرغبة في التصالح وتصفية الأمور. مع الاحتراس الشديد في عدم استخدام ألفاظ جارحة أثناء العتاب. بل قل كلمة لطيفة.

***

يعالج الغضب أيضا بالجواب اللين

وفي ذلك يقول سليمان الحكيم: "الجواب اللين يصرف الغضب. والكلام الموجع يهيّج السخط". لذلك إذا احتدم الغضب. فإنه لا يعالج بالكلمات الشديدة أو الموجعة. فالنار لا تطفئها النار. إنما يطفئها الماء. وهكذا تكون الكلمة اللطيفة أقدر علي إطفاء نار الغضب.

وطبيعي أن الإنسان المهذب في ألفاظه. لا يمكن أن يثير غضب غيره. بل إنه بالأكثر يمكن أن يُخجل الغضوب برقته ولطفه. بعكس الإنسان الفظ في ألفاظه. فإنه لا يستطيع إطلاقا أن يهديء غضوباً. بل إنه بألفاظه الشديدة قد يثير الإنسان الهاديء ويغضبه.

ومن أنواع الجواب اللين. أن يستخدم الإنسان فكاهة أو دعابة أثناء الغضب. فتنشيء جواً من المرح والمتعة يزول فيه الغضب.

***

أيضا يزول الغضب بروح البشاشة

الإنسان البشوش لا يغضب. كما أن بشاشته تزيل غضب غيره.

إن البشوش يستطيع أن يستوعب الموقف بلطف. ويرد علي من يخاطبه بملامح منبسطة مريحة. وبوجه مبتسم. ولا يستطيع الغضوب أن يستمر في غضبه أمامه. بل قد يضطر أن يبتسم هو أيضا. بل بالكلمة الطيبة ينفك امامها غضبه.

بعكس ذلك من تكون ملامحهم صارمة عابسة. ووجوههم جادة باستمرار. لا يبتسمون. ولا يتجاوبون مع بشاشة غيرهم.. هؤلاء إن صادمتهم حالة غضب. يزيدونها حدّة بهذه الجدية فتشتعل.. بينما يكون الحل في التنازل عن كآبة الوجه وصرامته. ولو مؤقتا إلي لحظات حتي تعبر المشكلة. ويمكنهم أن يصلحوا العلاقة مع الآخرين.

***

وقد يكون الجواب اللين المزيل للغضب. هو في كلمة اعتذار أو اتضاع

كأن تقول للغاضب: لك حق. أو "حقك عليّ".. أو أن تقول له كلمة مديح أو اطراء تظهر تقديرك له. فيختفي معها شعوره بأنك قد أهنته أو جرحت كرامته.. وسرعان ما يتلاشي معها غضبه. ولا يجد أمامه شيئا يقوله. بل تهدأ نفسه ويستريح داخليا.

في ساعة الغضب. ينبغي أن يفكر الإنسان في غيره. وليس في نفسه. لا تقل في فكرك أو في قلبك إن كلمة الاعتذار أو الاتضاع تسيء إليه. بل قل في نفسك.. يكفي أنني بها سأريح هذا الإنسان وأربحه. وانفذ قول الحكيم "رابح النفوس حكيم".

***

من المناهج الهامة التي تمنع الغضب. أن تكون بطيئا في غضبك

فالغضب هو حركة سريعة. تثار فتندفع. والإبطاء يمنعها. إذ أن الابطاء في الغضب. يعطي فرصة للتفكير والتحقق. ولتهدئة النفس من الداخل. والتحكم في الأعصاب وفي اللسان.

والإنسان العاقل لا يسلّم نفسه بسرعة إلي انفعال الغضب. إنما يتناول الأمر بكل هدوء ورزانة. وبموضوعية. ويدرسه ويفكر في كل نتائجه. وفي أسلم الحلول لمعالجته. كما يتحقق هل الكلام الذي سمعه وأثاره. هل هو حق أم باطل وهكذا بحكمة يكون بطيئا في غضبه.

ما أجمل قول سليمان الحكيم "لا تسرع بروحك إلي الغضب. لأن الغضب يستقر في حضن الجهال".

وبهذا رأي أن الإسراع في الغضب يؤدي إلي جهالة. وهذا واقع عملي. فكثيرا ما نري اشخاصا يغضبون بسرعة. ثم يرجعون فيندمون علي كل ما فعلوه أثناء غضبهم. ويرونه اندفاعا غير حكيم. كانت تنقصه الرؤية والفحص. ويقول الواحد منهم عن ساعة غضبه "لم أكن وقتها في عقلي"!!

***

حقا إن بطيء الغضب كثير الفهم

إنه يفهم مقدار الغضب ونتائجه السيئة. وأنه ضد الفضيلة والوقار. كما أنه لا يقيم سلاما مع الناس. بل أنه يضر بالغاضب نفسه.

والمعروف أن الابطاء في الغضب يمنعه أو يصرفه

علي الأقل فإن هذا الابطاء يجعله يجتاز مرحلة الانفعال. ويدخل في دائرة التعقل. وأيضا الصبر. وبهذا يتبدد الدافع السريع إلي الغضب. وربما يتسبب هذا الابطاء في الغضب. في تهدئة الطرف الآخر وإبطال ثورته.

***

إن آفة الغضب هي السرعة والتصرف باندفاع بغير تفكير

 فلو أنك ابطأت وبدأت تفكر ولم تترك نفسك فريسة للاندفاع فلا بد أنك تستطيع ان تهديء نفسك. وتحتفظ بأعصابك.

لذلك قبل ان تلفظ كلمة في غضبك. فكر في نتائجها..

المعروف ان الكلمات في حالة الغضب. تخرج بلا ضابط. ولذلك كثيرا ما تكون خاطئة جدا. وتسبب مشاكل. كما تكون موضع نقد. أما انت. فلا تندفع بالكلام. وتباطأ ريثما تفهم جيدا ماذا ينبغي أن تفعل. وأعلم أن الإبطاء في الغضب هو جزء من فضيلة ضبط النفس.

وإن لم تعرف كيف تتصرف. اسكت. فالسكوت في مواقف الغضب فضيلة.

لان تبادل الكلمات الشديدة. يشعل الغضب بالأكثر من الجانبين. والكلمة الانفعالية التي هي نتيجة لإساءة سابقة. تصبح مبررا لاهانة لاحقة من الطرف الآخر. وتزيد الجو توترا. علي أن هناك وسيلة تصلح احيانا اكثر من السكوت. وهي الجواب اللين الملطف للموقف.

***

في التعامل مع الغضب. احترس من التدرج إلي أسوأ

ففي كل مرحلة تصلح اليها في غضبك. احترس من أن تتمادي فيها وتصل إلي ما هو أسوأ. فإن دخل الغضب إلي فكرك. احترس من ان يصل إلي قلبك ويربك مشاعرك نحو الآخرين. وإن وصل إلي قلبك. فاحترس من أن يصل إلي ملامحك فيكشف وجهك. وتظهر باسلوب غير مشرف.

وإن ساد الغضب علي ملامحك. احترس من أن يسود علي لسانك فتتلفظ بألفاظ قاسية. وإن أدرك الغضب لسانك. إجعله ان يقف عند حد في اخطاء اللسان فهي متعددة. وإن سقطت في اخطاء اللسان. احترس من أن يعمل الغضب إلي يدك. فتقع في الإيذاء والاعتداء. وإن وصلت إلي ذلك. احترس من القسوة بكل أنواعها.

ضع للغضب حدا في كل مرحلة. ولا تجعله يصل إلي مستوي الحقد والكراهية.

***

احترس من أن يسوّد قلبك من جهة أشخاص معينين.

بحيث كلما تتكلم أو تتعامل معهم. يبرز غضبك ولو من غير سبب.

واحترس من أن تترسب أمور في أعماق نفسك. كلما تذكرها تغضب. وكلما يأتي ذكرها تحتد. واحترس من أن تنطبع مشاعر الغضب في عقلك الباطن. وتصبح مصدرا لاحلام فيها غضب وقسوة وعنف وحدّة. وتصبح استمرارية لحالة نفسية مريضة.

واحترس من أن يكون الغضب مصدرا لخطايا وشرور عديدة. فهو كما قلنا يلد خطايا أخري لا تدخل تحت حصر. وقد يتحول إلي عداوة ونتائجها. أو إلي معارك لا نعرف مدي نتائجها.

***

يعالج الغضب أيضا بالتصريف وليس بالترسيب

هناك طريقتان للتعامل مع الغضب. وفيهما يبدو الإنسان هادئا. وهي طريقة التصريف. وطريقة الترسيب.

أما التصريف. فمعناه أنه قد صرف الغضب تماما من اعماق قلبه. ولم يعد في داخله شيء ضد الطرف الآخر. وهذا هو الوضع السليم.

ولا يتم التصريف إلا عن طريق المغفرة الكاملة. التي تنسي الإساءة. بل ربما تلتمس العذر للمسيء. أو عن طريق التواضع العميق. الذي يشعر فيه الانسان أنه هو المخطيء. وأنه كان السبب فيما حدث.

وبتصريف الغضب. يصبح القلب صافيا تماما صفاء حقيقيا. من الداخل. كما من الخارج. ولا تشوب علاقته مع غيره أية شائبة.

***


أما الترسيب فهو صفاء خارجي. مع وجود أسباب الغضب كامنة مترسبة في النفس. كالدواء الذي يقال عنه "رجّ الزجاجة قبل الاستعمال" ويكون الدواء صافيا ورائقا من فوق. فإن رججت تعكر كله.

هذا نوع من تخزين الغضب. فإن تكررت الإساءة. يغضب الشخص ليس فقط بسبب الإساءة الجديدة. بل بسبب القديمة أيضا: يتذكرها ويحتد بسببها.