الــروح
والحرفيــة
بقلم
قداسة البابا
شنوده الثالث
14/9/2004
جريدة
الجمهورية
كثير
ما يقع بعض
الناس في
مشاكل.
ويوقعون غيرهم
في مشاكل.
لأنهم يهتمون
بالحرفية
وليس بالروح!
منذ أكثر من
خمسين عاماً.
كان أحد رؤساء
المصالح في
خلاف شديد مع
الموظفين.
وكانوا يكرهونه
جداً. فجاء
يعرض مشكلته
عليّ. وقال لي:
"لست أدري
لماذا يكرهني
هؤلاء. بينما
لم أتصرف معهم
أي تصرف يكون
ضد القانون؟!"
فقلت له إن
مشكلتك أنك لا
تتصرف معهم
إلا بالقانون
وليس بالحب. كما
أنك تعاملهم
بحرفية
القانون وليس
بروحه!!". وقلت
له أيضا إن
القانون
أعطاك سلطة
عليهم. والله
تبارك اسمه
أعطاك عقلاً
به تحسن
استخدام
السلطة في
حكمة. والسلطة
في روحها أعطيت
لتنظيم العمل.
وليس للسيطرة.
مدير آخر في
سوء استخدام
سلطته. فقد
هيبته علي
مرءوسيه.
وكانوا لا
يطيعونه
أحياناً..!
فقال لأحدهم
في انتهار
"ألا تعلم
أنني رئيسك؟!"
فأجابه ذلك
الموظف في
جرأة "أنت لست
رئيسي. بل أنت رئيس
فقط علي هذه
الأوراق التي
علي مكتبي.."
***
كلنا
نخضع للقانون.
ولكن القانون
يُفهم بروحه
وليس بحرفية
نصوصه.
لذلك توجد
للقانون
مذكرة
تفسيرية.
توضّح الهدف
منه. وحدود
تنفيذه.
والحالات
الاستثنائية الخاصة
به. وذلك حتي
لا ينحرف
البعض في
فهمه. ويفسره
أو يطبقه
بطريقة
خاطئة..!
نعم. ما أكثر
ضحايا
التطبيق
الخاطئ
للقانون. الذي
يصبح فيه
سيفاً علي
رقاب البعض.
وليس ميزاناً
توزن به
أعمالهم..! وما
أكثر الذين
يبحثون عن بعض
الضوابط في
تنفيذ
القانون
ليجعلوها عقداً
أو عراقيل! وما
أكثر الذين
يفتشون عن
ثغرات معينة
في أي قانون.
ليتخذوها
وسيلة للهروب
من القانون
نفسه. وقد
يحكم القضاء
بأمر ما.
ويقوم البعض
بإشكالات
تمنع التنفيذ.
وللأسف بنصوص
أخري من بعض
القوانين!
ولكل اولئك
نقول: أين روح
القانون؟
وأين هيبته؟
***
هناك
حكم يقول
"القاتل
يُقتل". ولكن
القضاء في
عدالته لا
يأخذ بحرفية
هذا المبدأ.
إنما يراعي
روحه بكافة
التفاصيل.
فيدرس القضية
وظروفها. وهل
حدث القتل
عفواً أو
عرضاً أو خطأً
أو سهواً. أو
عن طريق
الإصرار
والترصد وسبق
الإعداد
وإحكام
الخطة؟ وهل القاتل
كامل العقل أم
مختل أم
مجنون؟ وهل
وقت ارتكاب
الجريمة كان
في كامل
إرادته وحريته؟
أم كان مرغماً
أو مضطراً أو
مستفزاً أو محرضاً
من غيره؟ وهل
ارتكب
الجريمة
دفاعاً عن النفس.
أم دفاعا عن
الشرف. أم
دفاعاً عن
غيره؟ أم بقصد
الحقد أو
الانتقام أو
السرقة أو
بنية خبيثة؟..
وبعد فحص
القضية من
كافة نواحيها
وحيثياتها.
ودراسة حالة
الجاني من حيث
عقليته
ونفسيته
وإرادته
ونيته. وبعد
سماع الشهود
ومرافعة
النيابة
والدفاع..
أخيراً يحكم
القاضي
بالإعدام أو
بالسجن. أو
بالبراءة
أحياناً. أو
بالإيداع في
مستشفي
الأمراض
العقلية.
إن الأمر ليس
مجرد حرفية
القانون بقتل
القاتل. إنما
بروح القانون
الذي يدرس
ويحقق قبل أن يحكم.
***
إننا
نؤمن بسيادة
القانون.
ونؤمن أيضاً
بعدالة
القانون ومدي
مطابقته
لحقوق
الإنسان. ومدي
شرعيته.
ولهذا
فقد يحال
الأمر
أحياناً إلي
المحكمة
الدستورية
العليا. لمدي
معرفة دستورية
القانون وهل
يجوز
تعديله..؟ ما
أكثر ما تغيرّ
الدول أو
تعدّل من
قوانينها. نظراً
لدراسات
معينة. أو
لتغير الظروف
والملابسات.
أو لوجهات نظر
سياسية أو
اجتماعية أو لأسباب
أخري.. كما حدث
مع بعض قوانين
التأميم أو
المصادرة.
وبعض قوانين
الضرائب
والجمارك والحقوق
السياسية.
وتنظيمات
الأحزاب
وإجراءات
الانتخابات.
إن تطوير
القوانين يدل
علي وعي سياسي
ولون من التطور.
دون التجمد
عند حالة من
النصوص القديمة
لا تتغير..!
***
المهم
في تعديل
القانون. هو
روح القانون
وهدفه.
وبناء علي
الهدف. يمكن
صياغة النصوص
لتحقق الغرض
المطلوب. وإلا
فما هو هدف
الدراسات
القانونية؟
وما هي رسالة
الهيئات
المنوطة
بالتشريع؟ هل
كل ذلك لمدح
القديم
والثبات
عليه؟ أم أيضاً
لدراسته
ومعرفة نقاط
النقص وما يجب
استكماله؟
فمثلاً
القانون الذي
تقف عقبات عملية
في طريق
تنفيذه. يحتاج
إلي دراسة هذه
العقبات
وطريقة
التخلص منها.
حتي لو أدّي
الأمر إلي
تعديل
القانون أو
إعادة صياغته.
لكي يكون عملياً
في تنفيذه.
***
ومن
جهة روح
القانون. نذكر
أن بلاداً
معينة تسير
بالروح وليس
بالنصوص. في
تقاليد ثابتة
لها سلطة
القانون
عملياً. كذلك
هناك مجتمعات
كثيرة تحكمها
عادات. أو
تقاليد أو
قواعد مرعية
تسمي أحياناً Culture أو
تسمي Traditions ولا
يهم أن تسندها
قوانين معينة.
إنما يكفي الاقتناع
بها
اجتماعياً.
ويحدث هذا
أيضاً في بعض
القبائل
العريقة. وبين
العائلات
المتمسكة
بالتقاليد
وبالقيم. وهذه
القيم أثبت من
القوانين. لأن
لها العمق.
وليس مجرد
الشكليات والنصوص.
***
إن
مبدأ الروح
وليس الحرفية.
يصلح أيضاً في
التربية.
وذلك بتعليم
النشء مبادئ
يسير عليها.
وليس إغراقه
في عديد من
الوصايا لا
يدري عمق
روحها.. وكما
قال الشاعر:
إذا كنتَ في
حاجةي مرسلاً
.. فارسل
حكيماً ولا
توصيه
وإن باب أمرِ
عليك التوي ..
فشاور لبيباً
ولا تعصيه
نعم. إنه في
الحكمة. يمكن
ممارسة روح
القانون وروح
الوصايا
جميعها.
وليتنا نربي
أبناءنا علي
الحكمة في
التصرف. ونترك
لهم موازين
التفاصيل لكي يدبروها
بالحكمة دون
الاعتماد علي
حرفية النصوص.
فليست
التربية هي
مجموعات من
الأوامر والنواهي.
إنما تأتي
بالروح التي
توصل إلي الحياة
الأفضل.
***
كذلك
الأسرة
وتماسكها. لا
تسير بمجموعة
نصوص من قانون
الأحوال
الشخصية. إنما
بروح المحبة والتفاهم
بين الزوحين.
فلا يتمسك
الزوج بعبارة
"الرجل رأس
المرأة" أو
بعبارة
"الرجال قوامون
علي النساء".
إنما يدخل إلي
الحياة الزوجية
بروح المودة
والتآلف. التي
تجعل المرأة
تخضع لزوجها
عن حب وبذل.
وليس خضوعاً
لسيطرة
مفروضة عليها
من الرجل..!
ونحن نصل إلي
تثبيت هذه
المودة
بالتفاهم وبالاقناع
الذي هو أقوي
من أي نصوص في
القوانين. إنه
الروح وليس
الحرف.
***
إننا
نأخذ درساً في
الروح
والحرفية. من
قصة الكرمة.
والفرق بين
عنب
التكعيبات
والعنب
الأرضي. في
التكعيبات
تستند كرمة
العنب علي
التكعيبة
وتنتشر عليها.
بحيث إذا لم
توجد
التكعيبة. تقع
الكرمة وفروعها
علي الأرض
وتفسد. أما
العنب الأرضي
فيربي بحيث
يرتكز علي
ذاته. دون أية
دعامة تسنده
من تكعيبة.
وهكذا لا يسقط
علي الأرض.
إن التكعيبة
تمثل في
الحياة
الحرفية
للإنسان مجموعة
الأوامر
والنواهي
التي إن لم
يرتكز عليها
يضل طريقه في
الحياة. أما
العنب الأرضي.
فيمثل حياة
الإنسان
المرتكز علي
ذاته. بقيم ومبادئ
داخل نفسه.
تثبت مسيرته
في الخير. دون
أن يسأل في كل
طريق يسلك فيه
ماذا أفعل لكي
لا أخطئ؟
***
وكما
تكلمنا عن
القوانين
والوصايا.
نتكلم أيضاً
في محيط
الحياة
الدينية. وهل
هي تعتمد علي
مجرد آيات
ونصوص؟ كثيرا
ما يُستخدم نص
معين. أو إحدي
الآيات. في
توجيه حياة
الإنسان في
اتجاه ما. علي
غير ما يقصده
الدين!!
فالدين ليس
مجرد آية
واحدة. ربما
قيلت في
مناسبة معينة.
لغرض خاص.
إنما الدين هو
تعليم شامل
متكامل يوجه
الحياة
الإنسانية
كلها نحو
الخير
والفضيلة
والصالح
العام. وحكيم
هو الإنسان
الذي يفهم
الدين كله في
روحه. دون أن يتعلق
بآية واحدة.
عن غير فهم
بالقصد منها..!
وبنفس الوضع.
سنتحدث عن
الفضائل
الدينية. في
روحها وليس في
مجرد الشكل
والنص والحرف.
***
خذوا
فضيلة الصوم
مثلاً.
بين
الروح
والحرفية.
الصوم قبل كل
شيء هو وسيلة
لضبط النفس:
تبدأ من جهة
الطعام أولاً.
وبها يتدرب
الصائم علي
ضبط النفس من
جهة كل شيء.
فيحيا حياة
فاضلة ترضي
الله.
وليس الصوم في
روحه هو مجرد
اخضاع للجسد
فترة معينة.
يفعل بعدها
الإنسان ما
يشاء! كأن
تنتهي فترة
انقطاعه عن
الطعام.
بخضوعه لشهوة
التدخين أو
الخمر. وكما
قال الشاعر:
رمضان ولّي
هاتها يا ساقي
.. مشتاقة تسعي
إلي مشتاق
فهذا الذي
يشتاق إلي
الخمر. ويفرح
بانتهاء الصيام
ليشبع شهوته
في الخمر.. هل
نال هذا
الصائم ما
يهدف إليه
الصوم من ضبط
للنفس؟! أم
أخذ من الصوم
حرفيته وليس
روحه؟!
لذلك يصوم
كثير من
الناس. ولا
يستفيدون من
الصوم. لانهم
سلكوا في
صومهم بطريقة
حرفية. بعيدة
عن روحانية
الصوم وهدفه!
***
كذلك
مفهوم الصلاة:
حرفيا
هي حديث إلي
الله. أما
روحياً فهي
الصلة بين
الإنسان
والله.. ومن
معني الصلة
أتت عبارة
الصلاة. فماذا
إذن عن الذي
يصلي. ولا
يشعر بأية صلة
بينه وبين
الله؟ ألا
ينطبق عليه
قول الله عن
صلوات بعض
اليهود "هذا
الشعب يعبدني
بشفتيه. أما
قلبه فمبتعد عني
بعيداً". عن
مثل هؤلاء.
قال أحد الآباء
"إن حوربت
بهذه الحالة.
فوبخ نفسك
قائلاً: أنا
ما وقفت أمام
الله لكي اعدّ
ألفاظاً"! وقد
يكون ذلك في
الصلاة بغير
فهم ولا روح
ولا مشاعر!
وبدون خشوع
أمام الله.
وبدون حرارة
ولا حب!! وقد
يصلي مثل هذا
الإنسان
ويطيل الصلاة.
دون أن تصعد
صلاته إلي
الله! إنه
يصلي أو يظن
أنه يصلي
وصلاته ليست
صلاة!
يظن أنه يعطي
الله وقتاً.
أو يؤدي لله
فرضاً!! دون أن
يعطي لله
قلباً! بينما
يريد الله
القلب قبل كل
شيء. مثل هذا
الشخص يسلك
حسب الحرف وليس
حسب الروح!
***
نتطرق
إلي العطاء.
أو كما يسمي
أحياناً
بالصدقة.
العطاء في
روحه هو المشاركة
بالحب والقلب
مع المحتاجين
غير أن البعض
قد يعطي من
جيبه. وليس من
قلبه! وقد
يعطي عن
اضطرار. أو عن
افتخار. أو
لمجرد أداء
واجب. أو خجلاً
ممن يطلبون
منه العطاء..
وفي كل ذلك لا
تشترك عاطفته
في العطاء.
يكتفي
بالحرفية دون
الروح. لذلك
فإن المعطي
بسرور يحبه الرب.
ويحبه أيضاً
الذين يتلقون
منه العطاء. كذلك
من روح العطاء
أنك تدرك أن
الله قد أعطاك
ما تعطيه.
وأعطاك
الفرصة لكي
تعطي. فتشكره
علي ذلك.
***
عموماً
نحن نريد أن
ندخل في عمق
الفضيلة. في روحياتها
وليس في
حرفيتها.
والروحيات
تبدأ من القلب.
العفة مثلاً
ليست هي
الاحتراس
الخارجي من
الخطأ. إنما
هي عفة القلب
في كل شيء. فقد
يوجد من
يحفظون العفة
بأجسادهم. أما
أرواحهم من
الداخل
فخاطئة تشتهي
الخطية.
والاتضاع هو
حالة الروح من
الداخل. وليس
الاتضاع مجرد
مظهر خارجي
وألفاظ لا
تعبر عن حقيقة
قائلها. وهكذا
في سائر
الفضائل: المطلوب
هو الروح وليس
الحرفية.