الآباء والأبناء

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

3/2/2004

جريدة الجمهورية

 

 

واجب الوالدين:

تحدثنا في العدد الماضي عن إكرام الأبناء للوالدين.. واليوم نتحدث عن واجب الوالدين. لأن كل حق يقابله واجب.

فلا يصح أن الوالدين يطالبان علي الدوام بحقوق. دون أن يؤدوا ما عليهم من واجبات. فمن واجب الآباء والأمهات تربية الأبناء في خوف الله. وحسن معاملتهم. والإنفاق عليهم. ورعايتهم وتعليمهم. وتقديم حياتهم قدوة صالحة لهم وأمثولة طيبة. وتأديبهم كما يليق: في حزم ممزوج بمحبة وعطف.

***

غير أن كثيرين من الآباء والأمهات يقصرون اهتمامهم بأولادهم علي الأمور الجسدية والمادية فقط. دون الاهتمام بروحياتهم.

كل اهتمامهم بأولادهم منصب علي نواحي المأكل والملبس. والصحة الجسدية. وتهيئة الابن لكي يجد وظيفة ومركزاً. وتهيئة البنت لكي تتزوج وتستقر في بيت. أما حياة أولادهم الروحية. وضمان مستقبلهم الأبدي. فهي أمور ليست موضعاً للتفكير. أو لا تلقي الاهتمام الكافي. كأن لا أولوية لها في نظر الآباء والأمهات!!

فإن شبّ أحد من أولادكم فاسداً أو سييء الخلق. أو كان سبباً في تعبكم. فلا شك أنكم تحصدون ثمرة إهمالكم له..

وعلي رأي المثل: أدّبوا الأحداث. قبل أن يؤدبوكم!

لقد كان الابن في يوم من الأيام عجينة ليّنة طيّعة في أيديكم تشكلونها كما تشاءون. فلماذا لم تهتموا به لكي يكون ابناً صالحاً يفرح قلوبكم ويفرح قلب الله؟

***

إننا لا ننكر أحياناً أنه يوجد أبناء معاندون:

أبناء لا يقبلون التربية. أو يتأثرون بالصحبة الرديئة خارج البيت أكثر مما يتأثرون بجو الأسرة المهذب. أو أنهم انقادوا لعوامل نفسية معينة جعلتهم ينحرفون..

فأبونا آدم. كان من نسله ابن قتل أخاه. وأبونا يعقوب أنجب يوسف الصديق. وإخوة يوسف الذين باعوه كعبد..

ولكن ليس معني هذا أن نعذر كل أب في فساد بعض أبنائه.. أما إن كان الأب قد بذل كل جهده في سبيل تنشئة ابنه في حياة روحية. ولكن الابن علي الرغم من كل هذا انحدر إلي الفساد. لظروف خرجت عن إرادة أبيه. حينئذ يكون للأب عذره..

***

الزواج مسئولية

مادام الوالدان مسئولين أمام الله عن تربية أبنائهما وتقديم حياتهما قدوة عملية صالحة أمامهم. إذن فالزواج هو مسئولية بلا شك..

إن الزواج ليس مجرد علاقة بين رجل وامرأة. وإنما هو مسئولية تحتاج إلي كفاءة وإلي مؤهلات أبوة وأمومة..

هل يصلح هذا الرجل المتقدم للزواج لأن يكون أباً. يربي أولاده حسناً. ويكون قدوة صالحة لهم؟ وهل تصلح هذه الفتاة لأن تكون أماً تربي أولادها تربية طيبة. وتكون قدوة ومثالاً لهم؟ وهل يصلح الاثنان لأن يكونا زوجين مثاليين. يؤسسان بيتاً صالحاً. لا خلاف فيه ولا شجار. ولا أخطاء تسبب عثرة للأولاد؟

إن الأمومة والأبوة يحتاجان هما أيضاً إلي مؤهلات: من حيث النضوج الروحي والذهني. والفهم السليم لواجبات الأمومة والأبوة. وفهم نفسية الأطفال والقدرة علي تربيتهم.

***

العجيب أن كل شاب يتقدم إلي خطبة فتاة. يحصر تفكيره في نقطة واحدة وهي. هل تصلح هذه الفتاة لأن تكون رفيقة تسعد حياته. دون أن يفكر فيها أيضاً: هل تصلح أماً لأبنائه أم لا؟.. ونفس التفكير يكون عند الفتاة نحو خطيبها..

وتكون النتيجة أن ينجب الزوجان بنين. وهما لا يعرفان طريقة التربية!

فإن أخطأ الابن. يقابلانه بالضرب والنرفزة والشتيمة. ويتهمانه بالتمرد والفساد! ولكن ماذا كان واجبهما في تربيته؟ لا شيء. سوي التمسك بوصية الله في إكرام الوالدين. كأنها مصدر للسلطة. دون القيام بواجبات الأبوة وواجبات الأمومة..!

إن الأبوة هي واجب ومسئولية. وليست مجرد سلطة. الأبوة هي رعاية. هي عناية. هي اهتمام. هي حب وعطف وحنان. هي جهد باذل في سبيل الأبناء حتي ينشأوا كاملين وصالحين. وهكذا أيضا واجب الأمومة.

***

أمثلة

من الأمثلة الرائعة أم موسي النبي:

هذه التي ربته فترة قصيرة في طفولته. ثم عاش في قصر فرعون حيث العديد من الآلهة والعبادات المصرية القديمة.. ولكن هذه الأم العجيبة المتدينة. استطاعت في تلك السنوات القليلة التي ربّت فيها ابنها. أن تغرس فيه كل قواعد الإيمان بالإله الواحد وكل مبادئ الدين حتي أن كل السنوات التي قضاها في قصر فرعون بين رع وآمون. وإيزيس واوزوريس وغير أولئك لم تنزع منه إيمانه. بل صار بطلاً للإيمان السليم.. ما أعمق الفترة التي قضاها مع أمه في تأثيرها عليه إيمانيا.

***

وأنتِ أيتها الأم التي تعيش في أيامنا. كم سنة قضاها ابنك في رعايتك؟ أليست طول فترة طفولته وصباه وشبابه؟ لماذا أراك بعد كل هذه السنوات. تبكين من سوء خلقه ومن شراسة طبعه؟!

طوال السنوات التي قضاها معك. ماذا كان التأثير الروحي الذي أخذه منكِ. وبخاصة عندما كان عجينة لينة في يديك؟ ليتك تأخذين قدوة صالحة من أم موسي النبي وأمثالها من النساء اللواتي أشاد بهن التاريخ.

وقبل أن تسألي عن مدي طاعة ابنك لوصية إكرام الوالدين. نسألكِ عن الإعداد الروحي الذي أعددت به ابنك لتنفيذ هذه الوصية؟

وما أقوله للأم أقوله للأب أيضاً.. الأب الذي قد ينشغل كثيراً بعمله ورزقه وأنشطته. ولا يتبقي له وقت لتربية أولاده..!!

***

العبادة المنزلية

أنا أعلم أنكم تعبدون الله في بيوت الله. ولكن ماذا عن بيوتكم؟

ماذا عن صلواتكم مع أولادكم. وقراءتكم معهم في كتاب الله وفي الكتب الروحية؟ وماذا عن تعليمكم لهم المبادئ والقيم والروحيات؟

إن روسيا خلال السبعين سنة من الحكم الشيوعي. في تلك الفترة من الإلحاد. حيث لم يكن هناك تعليم ديني. بل كان النطق باسم الله من المحرمات. كان كثير من الأطفال يتلقون مبادئ الإيمان بالله من الأمهات والجدات في فترة طفولتهم. حتي حينما انقشعت فترة الإلحاد. انكشف الإيمان الذي كان مخفياً في قلوب أولئك الأبناء تحجبه قسوة الدولة..

ونفس الوضع كان في رومانيا أيام شاوشسكو وزوجته

كم كان أعمق تأثير الأمهات والجدات المؤمنات علي أبنائهن. في تلك الفترات العصيبة. وذلك عن طريق العبادة المنزلية.

***

من ضمن أخطاء الوالدين: الحنان الجسدي أو المادي. غير الروحي!

وكمثال لذلك الإشفاق علي الأبناء من جهة الصوم. خوفاً علي صحتهم! وقد يمتد هذا "الحرص" سنوات طويلة في عمرهم.

من أجمل وأوقع التداريب الروحية التي يمنحها الوالدان للأبناء في أثناء الصوم. وفي مناسبات كثيرة أيضاً.

كذلك نصائح الوالدين لأبنائهما من جهة العفة والحشمة وحسن التعامل مع الناس. والسلوك الروحي السليم.. كل ذلك يجعل الأبناء يقدرون الآباء والأمهات. في احترام شديد لهم ليس فقط من جهة الأبوة والأمومة. إنما أيضا من جهة نظرتهم اليهم كمرشدين روحيين..ومن الناحية الأخري ما أبشعها عثرة. ان يأخذ الابن فكرة سيئة عن والديه. ويقل تقديره الداخلي لهما!! وسبب ذلك ما يراه في حياتهما من أخطاء. أو من شجار وخصومات. أو من ألفاظ لا تليق!!

***

العجيب أن كثيراً من الشبان المتدينين والشابات المتدينات. يجدون أن الأب والأم هما اللذان يعرقلان نموهم الروحي!!

ويقفان عقبة في طريق تدينهم. خوفاً عليهم من التزمت أو من التطرف. ويكثران التوبيخ إذا امتنع اولادهم عن بعض المتع التي لا تريح ضمائرهم.. ويظن هؤلاء الآباء أن تلك المتع مادامت لا تضرهم هم ولا تعثرهم. فبالضرورة هي أيضاً لا تؤثر سلباً علي أبنائهم! ناسين الفارق في السن ونوع الحياة!

إن كانوا يخشون علي أولادهم من التطرف. فليعلموهم إذن طريق الاعتدال. دون أن يمنعوهم عن التدين جملة.. وإلا فإن الأبناء سيترسب في يقينهم أن آباءهم غير متدينين. فيضطرون إلي عصيانهم. وبلون من العناد. وبذلك يقعون في التطرف..

***

المحبة وحسن المعاملة

أيها الآباء والأمهات. كونوا أشخاصاً روحيين. وصادقوا أولادكم ولا تعاندوهم. وقودوهم برفق وهدوء. وبأسلوب الإقناع وليس عن طريق السلطة والإرغام

حينئذ تكسبون مودتهم وتقديرهم لا تظنوا أن الأبوة أو الأمومة هي مجرد سلطة! كلا. إنها حب وحنان وعطف. إنها البال الطويل والقلب الواسع. الذي يمرح فيه الابن ويستريح. إنها البذل والتضحية.

فإن خلت الأبوة من حنانها. تصبح لقباً ميتا لا حياة فيه. وإذا اهتم الأب بمجرد السيطرة. وأشبع في نفسه شهوة الأمر والنهي ظاناً أنها الوسيلة المجدية للتربية. وأيضا اعتزازاً بمركزه في الأسرة..!

فسوف يتحول بذلك إلي حاكم وليس أباً..!

***

ومن علامات محبتكم لأولادكم ألا تضغطوا علي نفسياتهم. وأن تأمروهم بما هو في حدود طاقاتهم.

وحسن أن تأخذ توجيهاتكم صورة النصيحة وليس الأمر. وأن تقنعوهم بفائدة هذه التوجيهات إن بدت غريبة عليهم. ولا تظنوا أن في ذلك إقلالاً من مركزكم. وليكن مصدر طاعتهم لكم نابعا من داخلهم. من اقتناعهم. وليس بإرغام من الخارج.

ولتكن طاعتهم لكم نابعة ايضا من ثقتهم بروحانية حياتكم وتعليمكم. وان كلامكم يحوي في داخله صوت الحق والضمير. وأنه دليل الحب. ولفائدتهم. وأشعروهم باحترامكم لشخصياتهم وعقلياتهم. وكما يقول المثل "إن كبر ابنك خاويه" أي عامله كأخ..

***

ومن علامات محبتكم لاولادكم ان تمنحوهم حرية تحت رقابتكم

إن الله نفسه يمنحنا الحرية. ولا يجعلنا مرغمين فيما نفعل.. ولذلك لا ترغموا اولادكم فيما يتعلق بزواجهم. انصحوهم ولكن لا ترغموهم. لابد من موافقة كل منهم علي من سيقضي حياته معه..وأيضا لا ترغموهم فيما يختص بمستقبلهم. فكل إنسان له اتجاهه الخاص في الحياة. بما يتفق ونوع نفسيته وعقليته ومواهبه.

اعطوهم ايضا حرية في تدينهم. وانصحوهم إذا مالوا إلي التطرف. وثقوا أن تدينهم مادام بطريقة سليمة هو مفيد لهم ولكم علي الأرض وفي السماء. ولا تقفوا عقبة في طريق روحياتهم. لئلا تفقدوهم.

***

أنواع أخري من الأبوة:

بالإضافة إلي الأبوة الجسدية. هناك الأبوة الروحية. وهذه قد تكون أعمق تأثيرا. وتشمل المرشدين والمعلمين والرعاية. وفيها يفتح الأبناء قلوبهم. ويتقبلون ما يقدم لهم من إرشادات ونصائح ومن حلول لمشاكلهم التي يعرضونها في صراحة. بل يقبلون أيضا التوبيخ علي أي مسلك يشرح لهم أنه سلوك خاطئ.

هناك أيضا أبوة السن. واحترام الشيخوخة. وتوقير امثال هؤلاء بسبب سنهم. فلا يتقدمهم الشاب في الرأي أو في السير. ولا يجلس بينما يكون شيخ في سن أبيه واقفاً. ولا يرفع صوته في وجه من هو أكبر منه. بل يكلمه باحترام.

هناك كذلك أبوة المركز. واحترام المعلمين والرؤساء. وكل من هم في وضع الرعاية والإشراف.