نتائج الجهل وعدم الفهم

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

10/2/2004

جريدة الجمهورية

للخطأ أو للخطيئة. وللشر أو الانحراف. أسباب عديدة نذكر من بينها الجهل. أو عدم الفهم. أو سوء الفهم. وما أسهل علي الإنسان أن يخطئ أو يبدأ في الخطأ بسبب الجهل. ولسنا نقصد الجهل بمعناه المطلق. إنما أحياناً بمعناه الجزئي. أو بإساءة الفهم.

ومن هنا كانت أهمية التوعية والتعليم لتحويل الناس من الظلمة إلي النور. وكشف الأمور لهم علي حقيقتها حتي لا يضلهم أحد.

ولذلك كثيراً ما كان البعض يخطئون. ويسيرون في تيار مظلم. ثم يرجعون عن ذلك بشيء من الإرشاد والشرح والتفهيم. ونذكر في هذا المجال بعض الأخطاء الاجتماعية. وبعض التقاليد الموروثة.. ونورد في هذا المجال أمثلة لمثل تلك الأخطاء.

***

الحرية

ما أكثر الذين يقعون في خطايا عديدة بسبب جهلهم لمعني الحرية. فهم يظنون أن الحرية هي أن يفعل الإنسان ما يشاء. دون أي قيد!
وبهذا المفهوم الخاطئ للحرية ينحرفون في أخطاء عديدة. مثلما انحرف الهيبز والبيتلز في أمريكا. ومثلما انحرف الشواذ جنسياً في انجلترا وغيرها..

إننا نحب الحرية ونطلبها للناس. ولكن نقصد الحرية المنضبطة:

الحرية التي يضبطها القانون. والنظام العام. ووصايا الله.. فأنت لا تستطيع أن تقود سيارتك مخالفاً لقواعد المرور. وتقول: أنا حر أسير كيفما أشاء وحيثما اشاء!! كلا. فهناك قواعد تضبط حريتك. وعليك أن تطيعها.. كما أنه لا يجوز لإنسان أن يتصرف بأسلوب يخدش الحياء العام. ويقول أنا حر اتصرف كما أشاء!! كلا. فهناك آداب عامة يجب أن يراعيها. وإلا فمن حق بوليس الآداب أن يقبض عليه. وأن يلقنه درسا فيما ينبغي أن يتبعه في الطريق العام..

***

الحرية هي أن تفعل ما تشاء. بحيث لا تعتدي علي حريات الآخرين ولا علي حقوقهم. وبحيث لا تعتدي علي أحد انظمة الدولة أو قوانينها.

فهناك شركات طيران تمنع التدخين فيها أثناء رحلة الطيران. فليس من الحرية في شيء أن يكسر أحد الركاب هذا النظام ويشعل سيجارته. ويقول: أنا حر لا أحد يمنعني من حرية التدخين! كلا. فإنهم سيمنعونه.. ذلك لأنه تجاوز حقوقه. أو تجاوز حدود حريته. فللحرية حدود.. ولا يجوز لإنسان أن يقيم علي سطح منزله حفلا صاخبا. بميكروفونات تنقل الأصوات العالية والضجيج إلي مسافات بعيدة. لا يستطيع معها أي مريض أن ينال راحته. ولا أي طالب أن يستذكر دروسه. كما لا يستطيع من يريد أن ينام أن يأخذ حريته في النوم. ولا يستطيع من يريد أن يقرأ أو يفكر أن ينال الحرية في القراءة أو التفكير.
ليست هذه هي الحرية. وممارسة الحرية في جهل وعدم فهم. أمر غير مقبول.

***

الحرية الحقيقية هي أن يتحرر الإنسان من الداخل: يتحرر من الطباع الرديئة. ومن العادات الخاطئة. وحينئذ يستطيع أن يمارس حريته حسناً..

ليس من الجائز أن يقول شخص: أنا حر في طباعي.. إن كانت طباعة يمكن أن تؤذي غيره. بلسان قاس أو الفاظ غير لائقة. أو بعلو صوت لا يحترم فيه غيره..
فلا يقل أحد: أنا حر. اتعامل مع الناس كما اشاء! كلا. إن كان تعامله بغير ما يشاءون. أو فوق ما يحتملون منه.

بل إن الإنسان ليس حراً في تصرفه مع نفسه...

فهو ليس حراً أن يقتل نفسه بالانتحار. فنفسه ليست ملكه وحده. وقتلها جريمة. كذلك ليس حراً أن يدمن المخدرات. فهذا الإدمان يضره صحيا وماليا ونفسيا. كما يسيء إلي أسرته وإلي سمعتها.. إذن كثيرون يخطئون بجهلهم لمفهوم الحرية الحقيقي.

***

السعادة
كثيرون لا يفهمون معني السعادة. لذلك يخطئون في التمتع بها..

البعض يخلط خلطاً شائعا بين السعادة واللذة!!

فيري السعادة في المأكل والمشرب. أو في الغني والمقتنيات. أو في الملابس الفاخرة. أو في القصور والجواري. أو في متعة الجنس والأغاني والرقص... وكلها تدخل في عنصر اللذة وليس السعادة. السعادة الحقيقية تشتمل علي فرح له عمقه. فقد يسعد القلب بعمل الخير. ويسعد باسعاد غيره من الناس. ويسعد بأداء الواجب كما ينبغي. والحصول علي رضي الآخرين وتقديرهم. ويسعد بسعادة أبنائه وأحبائه. كما يسعد بتوبة المخطئين. ونهضة المجتمع الذي يعيش فيه.

***

وهناك نوع آخر من السعادة اكثر عمقا. وهو سعادة القلب المؤمن بإعداد نفسه للنعيم الأبدي في الحياة الأخري.

وهو مفهوم حقيقي للسعادة الدائمة. علي اعتبار أن كل سعادة علي الأرض لها زمن مؤقت تنتهي فيه. بل قد تكون إلي شهور وأيام فقط. ثم تزول. أما السعادة في العالم الآخر فهي لا تنتهي أبدا. وهي التي ينبغي أن يوجه اليها الإنسان كل رغباته وكل طموحه. لذلك هناك سعادة الغالبين الذين انتصروا. ليس علي غيرهم إنما علي أنفسهم. وانتصروا علي الإغراءات والشهوات والضعفات. سعادة فيها الفرح الروحي بمعرفة الله ومذاقة الحياة معه. أي مذاقة مؤقتة لملكوته. وإن كانت علي الأرض إلا انها لها عمقها واصالتها ودوامها. إنها من نوع السعادة التي إن حصلتم عليها. فلن تنزع منكم..أما الذين يفهمون السعادة بطريقة خاطئة. ويجهلون مفهومها الحقيقي. إنما يتعلقون بشيء زائف مؤقت وزائل.

***

العظمة
ما أجهل الذين يتعلقون بمظهر خارجي يظنون انه العظمة!
أو الذين يخلطون بين العظمة والكبرياء والخيلاء!

مثل الذين يرون العظمة في منصب معين يتقلدونه. فإن تركوا ذلك المنصب. أو بالحري إن فقدوه. أصبحوا لاشيء. وفقدوا ما كان لهم في المجتمع من كرامة واحترام وسلطة!! ذلك لأن العظمة كانت مجرد رداء لبسوه. ولم تكن نابعة من شخصيتهم في الداخل. فلما خلع عنهم ذلك الرداء. انكشف ما تحته من فراغ.
مثال آخر هو الذين يكتسبون العظمة من غناهم. فإن فارقوا الغني أو فارقهم. لم تعد لهم مكانة تذكر أو أية صفة من العظمة. ذلك لأن العظمة كانت صفة للغني وليس لهم.. كانت عظمة المال. وليست عظمة الرجال!!

***

العظمة الحقيقية هي عظمة في الشخصية. وليس فيما يحيطها

وكثيرون كانوا عظماء بدون أي منصب أو غني.. مثل ديوجين الفيلسوف ايام الإسكندر الأكبر. ومثل ميشيل انجلو أيام احد البابوات الذي لا اذكر اسمه. ومثل كثير من العلماء والفلاسفة والأدباء والمفكرين الذين خلد التاريخ اسماءهم. ومثل كثير من النساك الذين عاشوا بلا لقب ولا وظيفة. أو كانوا اعظم من الألقاب والوظائف.
هناك عظماء استمدوا عظمتهم من عقلياتهم العبقرية. أو من قلوبهم العامرة بالإيمان. أو استمدوا عظمتهم من نبوغهم ومن مواهبهم.
وبعضهم نالوا العظمة من مواقف خالدة قد وقفوها. سجلها التاريخ لهم. وكانت سبب مجدهم وتوقير العالم لهم. نذكر من بين هؤلاء. مجموعة من الشهداء ومن الأبطال الذين بذلوا حياتهم من أجل مبدأ سام لذلك استمرت حياتهم بعد موتهم. في ذاكرة الناس. ليت الناس يفهمون المعني الحقيقي للعظمة ويتبعونه. ويتخلصون من الجهل الذي يجعلهم يتعلقون بمظاهر زائفة ليست من العظمة في شيء.

***

انتقل إلي نقطة أخري. قاد اليها الجهل ايضا. وهي الالحاد

الالحاد:
بلا شك أن الوثنية في كل تاريخها كانت جهلا بالله..

فالله أزلي. أي لا بداية له. والذين يؤلهون الاصنام كانوا يجهلون أزلية الله. لأن الاصنام كانت لها بداية..والله موجود في كل مكان. والذين عبدوا الشمس والقمر والكواكب والنهر. كانوا يجهلون هذه الحقيقة لأن الشمس والكواكب ليست موجودة في كل مكان. كذلك كانوا يجهلون أن من صفات الله يعرف الخفيات وما في القلب والفكر النية. الأمر الذي لا تتصف به الطبيعة التي يعبدونها ولا الاصنام.
ونفس الوضع نقوله عن كل تلك العبادات القديمة في العصر الوثني التي ما كانت تتصف بالصفات الالهية التي جهلها عابدوها. مثل قدرة الله علي كل شيء. وكون الله غير محدود... الخ وهذا الجهل ينطبق أيضا علي الذين كانوا يعبدون النار. والأرواح. والملوك!

***

أيضا الذين ينكرون وجود الله من غير عابدي الاصنام كالشيوعيين مثلاً .والفلاسفة الملحدين. فعلوا ذلك أيضا عن جهل وعدم فهم.

فكل من يتأمل قوانين الطبيعة العجيبة. كقوانين الفلك مثلاً. والعلاقة بين الشموس والأقمار. والنجوم والكواكب والشهب والمجرات. وما يربطها جميعها من نظام دقيق. لابد أن يبهر ويعترف بوجود الله. لابد أن هناك من أوجدها. ومن نظمها ووضع لها قوانين ثابتة منذ آلاف السنين..! نفس الوضع بالنسبة إلي جسم الإنسان وتركيبه ووظائف الأعضاء وعمل كل عضو في دقة عجيبة جدا. كعمل المخ والقلب وجهاز الأعصاب والجهاز الهضمي. وغير ذلك. لابد أنه يري عجبا يثبت وجود الله.
لأجل هذا كانوا يدرسون الفلك والطب في كليات اللاهوت.. ففيهما يدرك الدارس قدرة الاله الخالق العظيم الذي صنع كل ذلك. ولهذا فالملحد جاهل مهما ادعي العلم أو الفلسفة. فكل علمه جهالة بالنسبة إلي معرفة الله.

***

معرفة النفس
من ضمن مظاهر جهل الإنسان وعدم فهمه. أنه يجهل حقيقة نفسه ويظن أنه مجرد جسد يهتم بمتطلباته. وينسي أن له روحا لها متطلباتها أيضا!!

فعدم اهتمامه بروحه يدل بلا شك علي جهل له نتائجه السيئة في حياته.. ويندر أن يتأمل الإنسان في هذه الروح وفي احتياجاتها. بل انه قد يهملها ولا يفكر في مصيرها الأبدي وفي مستقرها بعد الموت. وفي جهل الانسان بذاته يسيء إلي نفسه وإلي ابديتها. وإلي نموها في حياة البر وفي السعي نحو الكمال النسبي. الممكن.
وقد يتجاهل الإنسان أن في تكوينه عنصرا آخر هو الضمير. وهذا أيضا يحتاج إلي تدريبه بالتوعية والمعرفة. حتي يكون ضميرا صالحا أمام الله. ويكون مستنيراً يميز تمييزا سليما بين الخير والشر. وبين الواجب والجائز والمحرم..

***

الحياة الاجتماعية
الحياة داخل الأسرة قد تقع في اضطرابات عديدة نتيجة للجهل

فقد يتزوج شابان. وهما لا يعلمان اطلاقا ما هي الحياة الزوجية. ولا ما هي العلاقات الأسرية. ولا كيف يحلان مشاكلها. قد يجهل الرجل نفسية المرأة. وتجهل المرأة نفسية الرجل. ويجهلان معا نفسية الطفل ونفسية المراهق. وكيفية التعامل مع كل مرحلة من مراحل السن. وتكون نتيجة كل هذا الجهل مشاكل وربما انقسامات قد تؤدي إلي فشل الحياة الزوجية..لذلك يحتاج الأمر إلي توعية لازالة هذا الجهل. حتي يعيش الزوجان سعيدين. وكذلك يعيش نسلهما سعيدا. انهما يحتاجان إلي توعية بفترة الخطوبة وخصائصها والتعامل فيها. وإلي توعية بطريقة التعامل في الحياة الزوجية. وتوعية بطريقة تربية الأبناء.

***

معرفة الله
كثير من خطايانا سببها عدم معرفتنا بالله معرفة عملية..

فلو عرف كل إنسان أن الله موجود في كل مكان. وأنه يري كل شيء. ويسمع كل شيء. لكان يحترس ان يخطئ أمامه. والله يراه.. ولكن يبدو أننا حينما نخطئ. لا تكون هذه الحقيقة في فكرنا.. لا نجهلها. بل ننساها. بل لو عرفنا ان الله يقرأ أفكارنا ويعرف ما في قلوبنا. لكنا نستحي منه كلما نفكر فكرا رديئا أو يتعلق قلبنا بشهوة خاطئة..ولكننا نخطئ: أما بسحابة من الجهل تغطي علي الفكر أو القلب. أو قل سحابة من النسيان أو من التجاهل. رحمنا الله كعظيم رحمته.