الفضيلة تعريفها..ومصادرها

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

17/2/2004

جريدة الجمهورية

تعريفها:

الفضيلة قد تعني نقاوة القلب والسير في طريق الله أو هي قوة في النفس. تمكنها من الانتصار علي كل نوازع الشر وإغراءاته. مع ممارسة الحياة البارة.

وربما تعني الفضيلة الارتفاع في مستوي الذات:

بحيث يخرج الإنسان عن دائرة ذاته. لكي يعيش لغيره.. يخرج من الاهتمام بنفسه. أو التركيز علي نفسه. إلي الاهتمام بغيره. وينتقل من محبته لنفسه إلي محبة الله والناس.

نقول هذا لأن الخطيئة كثيرا ما تكون انحصاراً حول الذات. فهي حالة إنسان يريد أن يرفع ذاته. ويمتع ذاته. ويشبع رغبات ذاته.

***

الفضيلة هي أيضاً ارتفاع فوق مستوي اللذة:

لأن غالبية الخطايا قد تكون مصحوبة بلذة حسية. أو لذة نفسية. فتدور حول ملاذ الجسد أو الفكر أو النفس. وتصبح لوناً من إشباع الذات. وبطريقة خاطئة.

فالذي يحب المال أو المقتنيات. إنما يجد لذة في المال وفي المقتنيات. وكذلك من يحب الزينة. ومن يحب الطعام. ومن يحب المناصب أو الشهرة. إنما يجد لذة في كل هذا..

ومن يحب الجسد. يجد لذته في الجسد. ومن يحب الانتقام لنفسه. يجد لذة في الانتقام.

الخطيئة إذن هي سعي وراء اللذة. والفضيلة هي ارتفاع فوق مستوي اللذة. إلي أن تجد اشباعاً لها في السعادة الروحية.

والسعادة غير اللذة. والفرح غير اللذة.

اللذة غالباً ما تكون مرتبطة بالحس. بالجسد والمادة. أما السعادة والفرح فيرتبطان بالروح. ولذلك فالفضيلة هي ارتفاع فوق مستوي التأثر بالمادة.

***

الفضيلة ليست هي مجرد فعل الخير. بل هي بالأكثر محبة الخير.

لأن بعض الناس قد يعملون الخير خوفاً من العقوبة. أو من أجل السمعة وتجنباً لكلام الناس. أو يعملون الخير حبا في المديح. أو رغبة في الحصول علي مكافأة. أو مجاراة لجو معين. ولكن ليس في كل ذلك حب للفضيلة!

أما الفضيلة فهي حب الخير.. حتي إن لم تفعل ذلك عملياً بسبب خارج عن إرادتك. يكفي أنك تحب الخير. وإن وجدت الإمكانية فإنك تعمله.. وهكذا تجتمع نية القلب وقتذاك مع الإرادة والعمل. لأن الإرادة وحدها لا تفيد الآخرين. أما العمل فهو التعبير عما في القلب من مشاعر طيبة.

***

والفضيلة لا تقف عند حد. إنما هي سعي نحو الكمال.

فالذي يسير في طريق الفضيلة. يود أن ينمو فيها. ويستمر في النمو حتي يصل إلي الكمال الممكن له كإنسان. أعني الكمال النسبي.

والسعي إلي الكمال قد يناسبه التدرج. لأن الطفرات السريعة كثيراً ما تؤدي إلي الخيلاء والافتخار. وأحياناً تكون لها نتائج عكسية.

أما الذي ينمو في الفضيلة بحكمة. فإنه يثبت نفسه في كل خطوة يخطوها. حتي إذا ما صارت طبيعية عنده. ينتقل إلي غيرها. وهكذا لا يصاب بنكسة.

غير أنه إذا أرادت نعمة الله أن ترفع الإنسان مرة واحدة إلي فوق. فهذه هبة إلهية غير عادية.

وتأتي الفضيلة بالسلوك العملي في حياة الروح.

***

مصادر الفضيلة:

1" أول مصدر لها هو الحكمة والإفراز والمعرفة:

لأن أناساً قد يضلون الطريق إلي نوعية العمل الفاضل. عن جهل..

والعلماء والفلاسفة يركزون علي كلمة "المعرفة". والمقصود بها المعرفة الحقيقية التي تميز بين الخير والشر. ويسميها البعض Lynosticism "القنوسية".

والإنسان الفاضل هو إنسان حكيم في تصرفاته. أما الخاطئ فيوصف بأنه جاهل. مهما كان من العلماء!! إنه جاهل بطبيعة الاشياء. جاهل بطبيعةالخير والشر. جاهل بمصيره الأبدي. وبما تجلبه الخطيئة من نتائج.

***

الخاطئ إنسان جاهل: لا يعرف خيره من شره. ولا نفعه من ضره

ولا نقصد المعني السطحي لكلمة "جاهل". التي تعني أنه لم يتعلم في مدارس. أو علي أيدي أساتذة. إنما هو جاهل من جهة المعرفة الحقيقية. ومن جهة بعده عن الحكمة الالهية.

ومثل هذا الإنسان يحتاج إلي توعية وإلي إرشاد..

الملحد أيضاً يمكن ان يوصف بالجهل. حتي لو كان من فلاسفة عصره!!

ذلك لأنه يجهل الله. والقيامة. والحياة الأخري. والأبدية..

أما الحكمة فإنها تدعو الإنسان إلي السير في الطريق السوي.. وكلما يتعمق الإنسان في الحكمة. فعلي هذا القدر يتعمق في فهم الأمور. ويعرف ماينبغي أن يكون. وكيف يسلك..

***

غير أن مصادر الفضيلة. ليست هي مجرد الحكمة والمعرفة. فقد يعرف الإنسان الخير ولا يسلك فيه! هنا نتعرض للمصدر الثاني للفضيلة وهو:

2" قوة الإرادة والعزيمة:

قد لا يستطيع إنسان أن يسلك في حياة الفضيلة. لأنه مغلوب من نفسه. لأنه ضعيف الإرادة. فهو لا يفعل الصالح الواضح أمامه. بل ما يعرف أنه سييء وضار. إياه يفعل!! كمن يستمر في التدخين. وهو يعرف أنه ضار بصحته وصحة الذين حوله. ذلك لأنه ضعيف مغلوب من هذه العادة.

إذن ضعف الإرادة. يسبب الوقوع في الخطية..

كما أن الوقوع في الخطية. يسبب مزيداً من ضعف الإرادة..

وكل منهما يكون بالنسبة إلي الآخر سبباً ونتيجة..

ولهذا فإن الذي يريد أن يسلك في حياة الفضيلة يحتاج إلي تدريب نفسه تداريب روحية كثيرة يقوّي بها إرادته.

***

لكل هذا نقول عن الإنسان الفاضل إنه إنسان قوي

هو قوي في الروح. وفي العزيمة. وفي الفكر. وفي التدريب وفي التنفيذ. وهو قوي في الانتصار علي الإغراءات والحروب الخارجية. كما أنه قوي في الانتصار علي النزعات الداخلية التي في نفسه وشهواته.

لا شك إذن أن الذي تستعبده عادة رديئة هو إنسان ضعيف.

وأيضا الذي لا يستطيع التحكم في لسانه. ولا التحكم في أعصابه. ولا التحكم في فكره وفي أهوائه. هو إنسان ضعيف. وبسبب هذا الضعف يبعد عن الفضيلة. وحتي إن تاب عن الخطية فترة. يعود اليها مرة أخري.

***

3" من مصادر الفضيلة أيضاً: المبادئ والقيم:

الإنسان الروحي المتمسك بالمبادئ والقيم. يحيا حياة الفضيلة. لأن القيم التي يؤمن بها تحصنه. فلا يستطيع أن يخطئ مهما حورب بالخطية. بل يقول: لا استطيع أن أفعل هذا الشيء. ولو كان السيف علي رقبتي! لا استطيع أن اكسر مبادئي مهما كانت الضغوط الخارجية.

أما الإنسان الخاطئ. فلا قيم عنده يحرص عليها!!

أي أن الفضائل لا قيمة حقيقية لها في نظره حتي يحافظ عليها! إنه يكذب لأن الصدق لا قيمة له في نظره. ويزني لأن العفة لا قيمة لها في نظره! ويخون لأن الأمانة لا قيمة لها في نظره.. وهكذا مع باقي الفضائل.

وبسبب ضياع القيم عنده. يقع في الاستهتار واللامبالاة.

لا الوقت له قيمة. ولا المواعيد لها قيمة. ولا العهود ولا النذور لها قيمة. ولا الواجبات لها قيمة. ولا النظام العام ولا القانون ولا التقاليد.. ولا شئ علي الاطلاق له قيمة أو هيبة في فكره ولا في قلبه!!

***

4" من مصادر الفضيلة أيضاً. مخافة الله:

الإنسان الذي توجد مخافة الله في قلبه. لا يخطئ. إذ يخاف أن يكسر وصايا الله. ويخاف اليوم الذي يقف فيه أمام الله الديان العادل. ويخاف العقوبة. بل يخاف أيضاً أن يفقد طهره ونقاوته. كما أنه يحرص علي سمعته. ويخاف أن يكون سبب عثرة لغيره من الناس.

وبالمخافة يسلك في طريق الفضيلة. وبممارسة الفضيلة يحبها. وهكذا يسلك فيها حينئذ عن حب لا عن خوف.

إن مخافة الله بالوقت توصلنا إلي محبته الممتزجة بمهابته ومخافة العقوبة توصلنا إلي الحرص. بل إلي حياة التدقيق أيضاً.

***

5" مصدر آخر للفضيلة هو الموهبة الإلهية:

فالفضيلة علي نوعين: نوع يولد الإنسان به. بطبع هادئ طيب ميال إلي الخير. ونوع آخر يجاهد فيه الإنسان لكي يصل إلي محبة الخير.

والنوع الذي يولد الإنسان به. ينطبق عليه المثل العامي "مالك متربي؟ قال: من عند ربي". ومن هذا النوع أيضاً من يرث عن والديه أو أحدهما طباعاً فاضلة لم يبذل جهداً لاقتنائها.

وهذان النوعان من الفضيلة نجدهما في الشعوب والأمم. فشعب له طباع هادئة. وشعب في طباعه عنف وقسوة. ويجاهد بعض أفراده لاقتناء الوداعة والهدوء.

***

6" الجهاد:

وحتي الذي يولد بالفضيلة يحتاج إلي جهد لمقاومة الحروب الخارجية:

ذلك لأن الشيطان عدو الخير. لايشاء أن يترك مثل هذا الإنسان في راحة. بل يحاربه محاولاً أن يفقده الفضيلة التي في طبعه..!

فالذي ولد بالفضيلة. يلزمه أن يثبت فيها. ويصمد أمام كل المقاومات والمضادات وكل مايحاربه بالسقوط أو يغريه بالخطأ.

من هنا كان الجهاد أحد مصادر الفضيلة:

إنه جهاد له جانب سلبي. وجانب إيجابي. أما الجانب السلبي فهو مقاومة كل إغراءات الشيطان وأعوانه الأشرار. ذلك لأنه كما أن النعمة تعمل علي رفع الإنسان إلي فوق. كذلك قوي الشر تحاول جاهدة أن تجذبه إلي أسفل. ومن هنا كانت الفضيلة من الناحية السلبية هي صراع ضد الخطية

أما الجانب الايجابي للفضيلة. فهو الجهاد لأجل النمو في عمل الخير.

***

7" من مصادر الفضيلة أيضاً. النعمة:

إنها نعمة الله التي تساعد الإنسان وتقويه لكي يحيا في الفضيلة..

نعمة تدفعه إلي عمل الخير. ونعمة تقويه علي عمل الخير. ونعمة تثبته في الخير. فلا يسقط ولا ينتكس. ونعمة تنجيه من قوي الشر حتي لا تنتصر عليه. ونعمة تحفظه من الكبرياء إذا نجح في طريق البر. فلا ينتفخ بذلك ولا يتفاخر.. وعموما بدون نعمة الله لايستطيع أن يسلك شخص علي الدوام في حياة الفضيلة ويستمر فيها.

لذلك علينا أن نشكر الله علي معونته لنا. وحفظه لنا بنعمته في حياة الفضيلة. وعلينا أن نشترك مع نعمته في العمل. ونسلمها إرادتنا.

فلا تكون نعمة الله دافعة لنا في طريق الخير. بينما إرادتنا لا تستجيب!!

***

إن الفضيلة بطبيعتها مغروسة في النفس. وبالذات في الضمير الإنساني

وهكذا تكون الخطيئة هي مجرد مقاومة لهذا الغرس الالهي..

ولهذا نجد ضمير أي إنسان أياً كان. من أي دين من الأديان يؤمن بالله.. هذا الضمير نجد الفضيلة مغروسة فيه. إنها الشريعة الطبيعية غير المكتوبة التي وضعها الله فينا. تجعلنا نميز بين الخير والشر. وتدفعنا إلي الخير. وتبكتنا إن لم نسلك في طريق الفضيلة.

لذلك نجد أن الذي يخطئ قد يشعر بالخجل أو الخوف أو الارتباك

هذا هو الذي يحدث للطفل. حينما يخطف شيئا ليس له. أو حينما يرتكب خطأ في الخفاء لا توافق عليه القيم المغروسة فيه بالفطرة.

وهذا يحدث للكبار أيضاً.. لهذا يحبون أن يرتكبوا أخطاءهم في الخفاء. في الظلمة حيث لا يلاحظهم أحد. وقد قيل عن أمثال هؤلاء إنهم "أحبوا الظلمة اكثر من النور. لأن أعمالهم كانت شريرة"!

ليتنا نسلك جميعنا في حياة الفضيلة. وتكون كل أعمالنا في النور. لا نستحي أن يراها أحد. ولا نخاف أن تكون معلنة للكل.