الكمال، والممكن

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

25 مارس 2006

جريدة أخبار اليوم

 

كلنا مطالبون بالكمال. غير أن الكمال المطلق هو لله وحده. أما نحن، فأقصى من نصل اليه هو الكمال النسبى، نسبةَ لمقدراتنا، وما يمنحه لنا الله من نعمة...

وهذا الكمال المطلوب منا هو الممكن، أى ما يمكننا عمله... أو ما يمكننا الوصول اليه دون أى تقصير من جانبنا...

****

طفل صغير فى بداية التعليم، يدرّسونه الجمع والطرح فى علم الحساب. فينجح فى الإمتحان ويحصل على الدرجة النهائية. نقول إنه وصل إلى درجة الكمال فى الرياضة (الحساب) طبقاً لمستواه. على الرغم من أن مستواه يُعتبر لا شئ، إذا ما قورن بالمستويات العليا فى الرياضيات. ولكنه حصل على الكمال النسبى، نسبة إلى سنه، وإلى مستوى تعليمه. وليس هو مطالباً بأكثر من هذا...

****

فى الحياة الاجتماعية أو الأسرية: نحن مطالبون بالاحتمال. وأى احتمال؟ إنه "حسب طاقتكم، سالموا جميع الناس"

المفروض طبعاً أن نعيش فى سلام مع جميع الناس. ولكن يحدث أحياناً أن زوجة لا تستطيع إطلاقاً أن تعيش فى سلام مع حماتها فى بيت واحد، لإختلاف الطباع أو اصطدام الآراء. فبدلاً من أن يتكرر الشجار كل يوم، من الأفضل أن تنفصلا، كل منهما فى بيت. ولا يكون هذا خصاماً، إنما إبعاداً للقش عن النار... وتستمر العلاقة فى سلام. ولكنه السلام النسبى أو الممكن

****

ينبغى اذن أن ننظر إلى امكانيات كل شخص. ولا نطالبه بما هو فوق طاقته. والناس يتنوعون فى مستوياتهم حتى الروحية منها..

فهناك مثلاً الشخص المبتدئ، وهو غير المختبر الناضج. وكلاهما غير الإنسان الروحى صاحب المواهب التى منحه الله إياها.

والناس يختلفون أيضاً من جهة السن: فما يستطيعه الشاب غير ما يقدر عليه الشيخ، غير ما يستطيعه الطفل... ونرى من جهة الصحة والمرض أن ما يقدر عليه المريض غير ما يقدر عليه القوى فى صحته.

والكمال الممكن لكل هذه النوعيات من الناس، يختلف طبعاً من شخص إلى آخر... كل واحد منهم على قدر طاقته...

****

لذلك يجب على المرشدين والمعلمين والوعاظ، ألا يطلبوا من الناس ما هو فوق طاقتهم من جهة الوصايا والتعليم...

ونفس الكلام نقوله للآباء والامهات، وكل الذين يعملون فى مجال التربية وفى مراكز الشباب. بل وفى مجالات التنمية أيضاً...

إعطوهم اذن الممكن الذى يقدرون عليه. وليس النافع هو كثرة الوصايا، بل ما يقدر السامع أن ينفذه منها

لهذا، كان السيد المسيح يوبخ المعلمين من الكتبة والفريسيين قائلاً "إنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة، ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يقدرون أن يحركوها بأصابعهم"...

والمستويات العليا يصل اليها الناس خطوة خطوة، ربما بتدريج طويل أو قصير، حسب إمكانياتهم...

****

والله – تبارك اسمه – سوف يحاسب الناس، حسب إمكانياتهم وطاقاتهم. حسب الممكن، وليس حسب المطلق...

كل منهم حسب مستوى عقله وفهمه، وما ورثه من طباع، وما يتعرض له من ضغوط خارجية لا تقوى عليها ارادته. نقول هذا من معرفته بعدل الله وأيضاً رحمته. وكلاهما يقرنان الوصية بالمقدرة. والله لا يطالب إنساناً بوصية هى فوق قدرته أو فوق معرفته...

ومن هنا أيضاً تدرجت وصايا الله للناس. فما أمرهم به فى عصر الوثنية وعبادة الأصنام وتعدد الالهة، كان من الطبيعى أن يرتفع فى عصور المعرفة والنعمة وعبادة الاله الواحد...

على أنه يجب أن نذكر ملاحظة هامة عن الممكن وهى

لا يصح اطلاقاً أن يتحول الممكن إلى لون من التسيب!

فلا تقصّر فى تنفيذ الوصية، وتغطى تقصيرك بالأعذار، وبأنه لم يكن فى إمكانك غير ذلك!! كلا، بل ليكن لك ضمير صالح أمام الله وأمام نفسك، فى صدق وتدقيق. لئلا تصل إلى تدليل النفس فى هروبها من الوصية أو فى استهتارها!

مثال ذلك: إن كانت هناك إعفاءات من الصوم فى حالات معينة للمرضى والعجائز والحبالى والمرضعات. فلا تتخذ مثل هذا التصريح سبباً للتسيب، إن كانت الصحة تحتمل...

****

ملاحظة اخرى: وهى إن كانت إمكانيات شخص لا تستطيع الأن: فمن واجبات الإنسان الصالح أن يقوّى إمكانياتها ويزيدها

وهناك تدريبات عملية كثيرة يستطيع أن يسلك فيها الشخص لكى يقوى قدرته، ويكتسب إمكانيات جديدة. وما كان غير مستطاع له بالأمس، يصبح اليوم ممكناً. وهكذا فالأعزار التى كانت تغطى عجزه من قبل، لم يعد لها وجود الآن

****

وفى حدود الإمكان، يسلك الانسان بأسلوب التدرج

فإن كنت لا تحب الخير الآن، اغصب نفسك عليه. وبالتوالى سيأتى وقت تتعود على عمل الخير، بل تشتاق إلى عمله. ولا يكون بعد عن طريق التغصب، إنما بكل رغبة واقتناع...

درّب نفسك على الإحتمال. وما لا تستطيع احتماله اليوم، فإنك بالتدريب سوف تستطيعه فيما بعد

درّب نفسك على العطاء، ولو بالقليل! المهم أن تعطى بأى قدر. ثم تدرج فى العطاء: ِزدهُ شيئاً فشيئاً. وكلما وجدت ثماره الخيرة، فإنك ستنمو فى عطائك، وتزداد فى كمالك النسبى

****

ليكن هدفك باستمرار هو الكمال. ولا تقف عند حد

وهذا الهدف سوف يدفعك إلى النمو فى عمل الخير

ولاحظ نفسك. إن كان نموك الروحى قد توقف. فادفعه مرة اخرى بأساليب وطرق شتى. لأنه على قدر ما تصل إلى كمال نسبى هنا على الأرض، سوف تكون مجازاتك فى السماء...

واطلب معونة من الله القادر على كل شئ، حتى تستطيع بمعونته وعمل نعمته، أن تنتقل من كمال إلى كمال أعلى فى كلِ من المستوى النسبى والممكن...