دروس من نهر النيل

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

27 مايو 2006

جريدة أخبار اليوم

 

نهر النيل مصدر عطاء لنا. فهو يعطينا الماء الذى نشربه، والماء الذى يروى الأرض والنبات والشجر. ولكنه فوق ذلك كله – بشئ من التأمل فى تاريخه ومساره – يعطينا الكثير من الدروس الروحية. فما هى تلك الدروس

نحن نعلم أن هذا النهر أصله قطرات من الماء، نزلت مطراً، وتجمعت فصارت نهراً، على مدى سنوات طويلة جداً

فقطرات الماء، بالتوالى والمدى الزمنى، استطاعت أن تكوّن نهراً. فهذا النهر العظيم أصله شئ بسيط: قطرات من الماء..

ومن هنا نأخذ الدرس الأول: فلا نستهين بالشئ البسيط. إنه بالزمن قد يتحول إلى شئ ضخم. وهذا ما نراه فى الحياة: إن أكبر مشروع، أو أكبر اختراع بدأ بفكرة. وكما يقول المثل "إن أطول مشوار أوله خطوة"... ومن الناحية السلبية: إن أبشع جريمة يمكن أن تبدأ بمجرد انفعال! ومستعظم النار تكون من مستصغر الشرر! فلنحترس إذن من الصغار التى تقود إلى الكبائر...

****

الملاحظة الثانية: إن قطرات الماء اللينة الناعمة، لما سقطت بمتابعة واستمرار، استطاعت أن تحفر فى الجبل والأرض طريقاً!

وبمرور الأيام والأعوام عمقّت هذا المجرى وأطالته واستقرت فيه. وهنا نأخذ درساً من المثابرة وعدم النكوص أمام العقبات ما دامت نقطة الماء تستطيع أن تشق لها طريقاً وتحفر لها مجرى...

ولكنها ليست نقطة ماء وحدها، بل تجمع من هذه النقاط، أعطاها طاقة وقوة. وهذا هو الدرس الثالث الذى نأخذه: إن قطرة الماء وحدها قد لا تستطيع أن تفعل شيئاً. ولكن تجمع هذه القطرات يجعلها طاقة جبارة...

ملاحظة أخرى: وهى أن هذا الماء فى منبعه من جبال الحبشة، يحمل معه طيناً. ويبدو لأول وهله معكراً، بينما كله فائدة

هذا الطين الذى يعكره هو الغرين الذى كان سبب خصوبة أرض مصر، وهو الذى كسا رملها بالطين، وجعلها أرضاً زراعية منتجه. فلا تنظر إلى الماء وقتذاك وتنتقد عدم صفائه، بل العكس- فى عمق – تمتدح دسمه

وعلى الرغم مما كان يحمله من الطين، فإن له عذوبة فى مذاقه، بعد بعض عمليات من التصفية. وما أعذب ماء النيل

وهذا الأمر يعطينا درساً آخر فى عدم الحكم حسب الظاهر. إنما نحكم فى عمق وبعد تحقق

****

نلاحظ أنه فى بادئ الأمر، قبل أن يعمق النيل مجراه، كانت المياه تنسكب على الجانبين مكونة مستنقعات، ما لبثت أن زالت بمرور الزمن... كلما تعمق المجرى شيئاً فشيئاً..

هذا الأمر يعطينا فكرة عن التدرج. ويعطينا درساً فى اننا لا نحكم على أمر إلا بعد أن يستقر ويكمل. فنقطة البدء أحيانا لا تسّر... ولكن يجب أن نعطى الأمور راحتها، فى المدى الزمنى الذى تستكمل فيه وضعها ورونقها... ونصبر على كل مبتدئ، حتى يصل إلى غايته

****

إننا نأخذ درساً آخر من الجنادل الستة التى فى مجرى النيل، التى سُميت خطأ بالشلالات...

هذه تمثل الصلابة والصمود. آلاف السنين تمر عليها، والمياه والأمواج تصدمها، وهى ثابتة فى مكانها لا تتزعزع. إنها أقوى من الماء. وقد إحترم النيل وجودها واستبقاها وسط مياهه، أو أن قوة مياهه لم تقدر عليها. فبقيت شاهداً على أن لكل قوة حدوداً!!

****

درس آخر نأخذه من نهر النيل، وهو

إنه لم يكتف بأن عمّق مجراه، انما أيضاً صار له شاطئان:

هذان الشاطئان ليسا حاجزين يحدان حريته فى الجريان، إنما هما يحفظانه فى مجرى سليم، بحيث لا ينسكب ماؤه هنا وهناك.

انهما درس لنا أن يمارس الانسان حريته وسط حاجزين لا يتجاوزهما: الأول هو وصايا الله، والثانى هو النظام العام وقوانين الدوله. وبين هاذين يسير فى مجراه كما يشاء. ويقول إن هذين الأمرين لا يحدان حريته، إنما يحفظانه من الضياع...

****

درس آخر نأخذه من (وفاء النيل) الذى كان عيداً تقيمه مصر للنيل كل عام ذاكرةً وفاءه

فهو فى كل عام كان يرتفع منسوب مائه إلى الحد الذى يطمئن به الشعب إلى أنه سيكون كافياً لهم فى الشرب وفى الزراعة... فيقيمون احتفالاً لذلك يفرحون فيه ويبتهجون...

وفى الحقيقة إن هذا الوفاء يرجع إلى الله تبارك اسمه، الذى لم يحرمنا من أمطاره التى سببّت امتلاء النيل بالماء.

وإن كنا فى عيد وفاء النيل، إنما نذكر ضمنا نعمة الله علينا بالماء، فهذا درس آخر ينبغى أن نذكره على الدوام، فنشكر الله الذى ينعم علينا بالماء

****

ملاحظة أخيرة، وهى أن النيل من منبعه إلى مصبه، قد قطع رحلة طويلة حتى وصل الينا. وكان فى اثنائها يوزع من خيره على كل بلد يصادفه: فأعطى اثيوبيا، والنوبة، والسودان، ومصر، وكل الصحراوات المحيطه

إنه درس فى كرم العطاء، وفى منح الخير لكل من يصادفه

ونحن نشكره على كل ذلك. وهذه البلاد التى منحها من مائه تنطوى كلها تحت عنوان (أبناء النيل)