العطاء والبذل

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

19 أغسطس 2006

جريدة أخبار اليوم

"مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ"

بهذه العبارة الدسمة فى معانيها، نبدأ موضوعنا عن العطاء والبذل.

إن الله تبارك اسمه – هو أول من أعطى، وأعطى بسخاء.

لقد أعطى الإنسان نعمة الوجود حينما خلقه، وأعطاه معها نعمة الحياة، وأيضاً نعمة العقل والنطق. وهكذا تميز الإنسان بأنه مخلوق حى عاقل. ناطق. أعطاه الله أيضاً سلطاناً فى الأرض، وكرامة فوق كل المخلوقات الأرضية، بل أعطاه فوق ذلك كله، شرف التحدث إليه (فى الصلاة). وزوّده طوال حياته ببركة الرعاية والحماية

لهذا كله، كان لقب (المعطى) من القاب الله عز وجل.

أما الإنسان الذى يقدم العطاء، فهو عبد المعطى، أخذ من سيده ما يعطيه لغيره..

حقاً ان الله – ليس فقط هو المعطى الأول، بل أيضاً هو المعطى الوحيد الذى يعطى من عنده. أما نحن فنعطى غيرنا مما يعطينا الله.

الذى علمنا موهبة العطاء، وأعطانا الذى نعطيه

****

وقد دربنا الله على العطاء، وشجعنا عليه بأمور عدة:

منها انه أمرنا بإعطاء يوم من الاسبوع له. هو يوم مقدس لله. ومنها أيضاً أنه أمرنا أيضاً بتخصيص جزء من أموالنا له، ننفق على الفقراء والمحتاجين، وعلى مشروعات البر.

ومن تشجيعنا على العطاء، أنه جعل مكافأة عليه، سواء فى السماء أو على الأرض، حيث أنه على قدر ما نعطى، يعطينا الله وأزيد.

فما هى اذن قواعد العطاء؟ وكيف يكون فى وضعه المثالى؟

****

القاعدة الأولى هى أن تعطى عن حب واشفاق، وعن اقتناع

فهناك من يعطى مرغماً، حين يلحون عليه وهو لا يريد! ومن يعطى لمجرد الخجل ممن يطلبون اليه من اجل المساهمة فى مشروع بر! ومثل من يعطى مجاملةً، أو لمجرد إداء واجب، أو انسياقاً مع تيار معين ليس من السهل التخلف عنه! وهنا من يعطى محبة للظهور وللمديح!!

كل اولئك قد يعطون من جيوبهم وليس من قلوبهم! وليس هذا هو العطاء المطلوب، إذ ليست فيه أية عاطفة نحو المحتاجين...

****

والعطاء المثلى، ليس هو فيمن يطلب منك فتعطيه، بل الأكثر هو الاحساس باحتياج أولئك المحتاجين، وإعطائهم دون أن يطلبوا...

فإن الله تبارك اسمه كثيراً ما يعطينا دون أن نطلب. فكم بالأولى اذا ما طلبنا منه، فإنه يعطينا أكثر مما نطلب...

فلتكن فينا هذه المثالية التى قدّمها لنا الله، فنعطى الآخرين أكثر مما يطلبون. لانهم قد يكونون فى حاجة، ومع ذلك لا يطلبون كل ما يريدون، إما خجلاً أو خوفاً من أن يوصفوا بالطمع...

****

ومثالية العطاء أيضاً هو أن تعطى من الأشياء الجيدة الفائضة.

لأن هناك اشخاصاً لا يعطون إلا من الفضلات، أو من الأشياء المرفوضة منهم، فيتخلصون منها عن طريق العطاء، ولكن ليست هذه هى فضيلة العطاء الذى يتمثل الانسان فى أعطاء أجود وأفضل ما عنده. وهكذا كان يفعل حاتم الطائى الذى كان من أكرم العرب فى عطائه...

وميزان العطايا لا تكون على قدر من يأخذونها. انما كرم العطايا هى أن تكون على قدر معطيها...

****

وأفضل نوع من العطاء، هو أن يعطى الانسان من أعوازه...

أى أن يعطى وهو محتاج. هذا يكون عطاؤه ذا عمق. لأنه يحمل معنى التضحية بالإضافة إلى صفات العطاء الأخرُى. وما أعمق ما قاله مرشد روحى فى أحدى فترات المجاعة، حيث قال "اذا لم يكن عنده ما تعطيه لهؤلاء المساكين. "فصُم وقدّم- لهم طعامك"!

ومن هنا كان العطاء الذى يقدمه الفقراء – مهما كان قليلاً فى كميته – فهو فى نوعيته أفضل مما يقدمه الأغنياء من فضلاتهم

****

ومن أجمل صور العطاء، أن يصبح عادة عند المعطى..

فهو يعطى باستمرار، ويعطى كل يوم. ويأسف إن مرّ عليه يوم لم تتح له فيه فرصة للعطاء. وهو لا يرد طالباً مطلقاً. ويعطى الكل دون تفريق. ولا يعطى بكيل أو مقياس، إنما يعطى بلا حدّ، وبلا عدّ. وينمو فى موهبة العطاء يوماً بعد يوم...

ومتى أعطى يعطى بكرم وسخاء، كعطايا الله التى تتدفق علينا...

****

والمعطى لا يفتخر بعطائه، ولا يطلب عنه أجراً هو مديح الناس.

إنما بقدر الامكان يعطى فى الخفاء، وأجره عند الله الذى يرى كل ما فى الخفاء ويكافئ عليه... وهو يواظب على العطاء، واثقاً من أنه ليس يتنازل عن شئ من أمواله. إنما هو يكنز له كنوزاً فى السماء...

ويدرك فى أعماق قلبه، وفى ثقة انه لا يعطى إنما هو يأخذ! أى يأخذ بركة هى أعمق بكثير مما يعطيه. وهذه البركة تتابعه فى امواله، وفى كل ما تمتد اليه يده. فهو يستبدل العطية المادية الفانية بعطية أبدية لا تفنى....

****

والعطاء الأكبر، هو أن يعطى الإنسان نفسه فداءً لغيره...

لأن كل عطية اخرى هى خارجة عن ذاته. أما تقديم النفس عطية، فهو أعظم من كل شئ. وكثيراً ما يعبرّ أحدهم عن محبته لصديق له، فيقول "أنا مستعد أن أفديه بحياتى"... هنا قمة العطاء

على الأقل إن لم يستطع أحد عن يقدم حياته، أو لم تأت مناسبة لذلك، فعلى الاقل يمكنه أن يتبرع بشئ من دمه، حينما يُطلب ذلك منه لانقاذ حياة مريض أو جريح...

إن مجالات العطاء متسعة، وليساهم كل أحد فيها بما يستطيع...