التداريب الروحية

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

2 سبتمبر 2006

جريدة أخبار اليوم

 

ليس الدين مجرد معلومات، أو مجرد إمتلاء من المعرفة الدينية. فالمعرفة وحدها لا تكفى... ماذا يستفيد الانسان إن كان يعرف كل المعلومات عن الفضيلة، دون أن يسلك فيها؟!

إننا نقرأ الكثير من الدروس الروحية، ونستمع إلى الكثير. ولكن المهم هو ماذا نفعل؟ وماهو تأثير كل هذه المعلومات على حياتنا العملية؟ هل اكتفينا بالمعرفة، أم اهتممنا أن نحوّل تلك المعرفة الى حياة؟

****

وهذه هى فائدة التداريب الروحية: تحويل كل المعارف والاشتياقات الروحية الى ممارسة وعمل والى حياة.

يدخل بها الانسان فى مواجهة عملية مع نفسه، فيعرف حقيقتها، ويدرس ضعفاته ونقائصه وأخطاءه، ويعرف ماهى أسباب أخطائه، وماهو طريق مقاومتها، وماهى العقبات، وكيف يمكن الانتصار عليها؟؟ وهكذا لا يقف عند حدود المعرفة الدينية، ولا يكتفى بمجرد الاشتياقات الى الفضيلة، إنما يتدرب عملياً عليها، لإكتساب فضائل جديدة، أو للنمو روحياً. وبالتدريب يبدأ فى أن يجاهد مع نفسه، كما يطلب معونة من الله تسنده وتنميه..

****

إن الأبرار – فى سموّهم الروحى – لم يصلوا الى درجاتهم العالية دفعةً واحدة. بل تدربوا حتى وصلوا، بجهاد وتعب، وعلى مدى زمنى...

فلا يجوز لنا أن نأخذ ما كُتب عن قممهم الروحية كأنه نقطة بدء لنا! ولا نبدأ نحن بما وصلوا اليه فى نهاية جهادهم، بل نتدرج... وإن كنا نشتاق الى إقتفاء أثرهم، واقتناء فضائلهم، فلنتدرب على ذلك خطوة خطوة...

حسن أن يشتهى المرء الحياة الفاضلة. ولكن عليه أن يسير فى هذا الطريق بحكمة. وحبذا لو كان ذلك تحت توجيه مرشد روحى قد اختبر ونجح...

والتداريب الروحية تدل على أن صاحبها سهران على خلاص نفسه...

لا تلهيه مشاغل الدنيا عن التفكير فى الأبدية ومداومة العمل لأجلها. فهو يحاول باستمرار أن يكتشف أخطاءه، أو الأخطاء التى يكشفها له غيره، ويعمل على تفاديها. لأنه بدون ذلك لا يمكنه أن يتدرب على تركها...

فلا تتضايق اذن ممن يظهر لك عيباً فيك. بل استفد من هذا الكشف لكى تتخلص من هذا العيب. وأنت من ذاتك أفحص نفسك فى ضوء وصايا الله، وأعرف ما ينقصك حتى تجاهد فى اقتنائه...

****

واحذر من تبرير نفسك، ومن تغطية الأعذار بالأخطاء:

فإن عمى الخطأ، هو أن يرى الانسان نفسه بلا خطأ، وأن يكون باراً فى عينىّ نفسه!! والذى يبرر نفسه، يبقى دائماً حيث هو، ولا يُصلح من ذاته شيئاً... وكثير من الناس لهم طباع خاطئة ثابتة فيهم، لا يرجعون عنها على مدى الزمن. ذلك لأن نفوسهم – للأسف – جميلة جداً فى أعينهم! وهم يرون أنهم دائماً بلا عيب ولا نقص. ويهاجمون كل من يُظهر لهم عيباً فيهم، ويعتبرونه عدواً أو مدعياً...

أما أنت فلا تكن كذلك، بل حاسب نفسك بدقة شديدة، ولا تعذر نفسك مطلقاً. فسوف يأتى وقت تقف فيه أمام الله بلا عذر...

****

وإن كنت تستحى من أن يكشف لك الغير خطأً فيك، فلا شك أنك لا تستحى بنفس القدر اذا ما أكتشفت أخطاءً فى نفسك...

لهذا أجلس مع نفسك، وكن صريحاً مع ذاتك الى أبعد الحدود. ولتكن مقاييسك الروحية عالية فى مستواها. ولا تكتفِ بالمستوى العادى، بل حاول أن ترقى بالمقياس الروحى الذى تقيس به نفسك. واطرق نقط الضعف التى فيك، والتى تكشفها لك قراءتك عن سير الأبرار وفضائلهم، أو التى تدركها من سماعك بعض العظات التى تشعر انها تمس حياتك..

وثق انك لو دربت نفسك على فضيلة واحدة كل أسبوع، أو حتى كل شهر، لأمكنك أن تقتنى عدداً كبيراً من الفضائل كل عام، أو أن تثبت فيها بكثرة الممارسة. وأعلم أن الفضائل مرتبطة ببعضها البعض. فإن مارست إحداها، ستقودك إلى فضائل غيرها ما كنت قد وضعتها فى تدريبك. ذلك لأنها جميعها فى ارتباطها مثل حلقات فى سلسلة واحدة...

****

وثق أنك إن بدأت فى تداريبك الروحية، فإن نعمة الله ستبدأ معك.

فإن الله لن يتركك وحدك فى تداريبك، لأنك قد أظهرت بها أنك جاد وملتزم بالسلوك فى الحياة مع الله. وبشعورك هذا سوف تتجاوب معك المعونة الإلهية. وإن كان الشيطان يحاول أن يحاربك بشتى الطرق أن تكسر التدريب أو تنساه، فإن النعمة سوف تسندك لكى تتذكره وتنجح فيه. والمهم هو أنك لا تتراجع ولا تتراخى. بل كن حازماً مع نفسك...

****

واذا دربت نفسك على فضيلة ما، فأعرف أن الثبات فيها هو أهم بكثير من مجرد إقتنائها...

لأنه ما أسهل أن تستمر فى إحدى الفضائل يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً.. ثم تتخلى عنها. إنما المهم أن تستمر فيها، حتى تصبح هذه الفضيلة عادة فيك، أو تتحول الى طبع. وهكذا يحتاج كل تدريب إلى مدى زمنى حتى يرسخ فى أعماق نفسك. لأن كل تدبير لا تثبت فيه زمناً، يكون بلا ثمر...

لأن الزمن والأستمراريه هما المحك العملى لمعرفة عمق الفضيلة فيك. والوقت أيضاً يعطى فرصة لمعرفة المعوقات التى تقف ضد التدريب، ولمعرفة طرق التغلب عليها

لذلك فإن القفز من تدريب الى آخر، لا يفيد روحياً.. وكثيرون يريدون أن يصلوا إلى كل شئ فى أقل فترة من الوقت، فتكون النتيجة أنهم لا يصلون الى شئ، بسبب عدم التركيز...

****

وليكن التدريب الذى تدرب نفسك عليه واضحاً ومحدداً...

فلا تقل لنفسك: أريد أن أدرب نفسى على حياة الوداعة والاتضاع. بينما تجد عبارة (الإتضاع) غير واضحة أمامك فى معناها وتفاصيلها، وهكذا لا تفعل شيئاً! بل ادخل فى التفاصيل مثلاً، وقل "أريد فى حياة الإتضاع أن ادرب نفسى على أمر واحد فقط وهو اننى لا أمدح نفسى". فإن اتقنت هذا الأمر زمنناً، تقول "أدرب نفسى على ألا أسعى وراء مديح الناس". فإن اتقنت هذا أيضاً، تقول "أدرب نفسى على شئ آخر، وهو أنه اذا مدحنى آخر، لا اشجعه على الأستمرار، أو أغيرّ مجرى الحديث. أو على الأقل لا أسرّ بالمديح، بل أتذكر بعض ما أعرفه عن نقائصى، لكى تتوازن مع ما سمعته من مديح"...

ولا تدرب نفسك على محبة الآخرين دون أن تعرف مثلاً تفاصيل هذه الفضيلة. وإن عرفتها، أسلك فيها واحدةً فواحدة...

****

وليكن تدريبك الروحى فى حدود إمكانياتك، تستطيع تنفيذه عملياً...

ذلك لأن البعض قد يضع لنفسه تدريباً فوق مستوى إرادته، أو لا تساعده عليه ظروفه! أو فى تدربه على فضيلة ما، يقفز إلى مستوى درجة عالية لا يمكنه الأستمرار فيها. وقد يصيبه ذلك بنكسة فيما بعد ترجعه إلى الوراء خطوات...

بل يمكن مثلاً أن يتدرج فى التدريب. بحيث لا يأخذ فى كل مرة الا جزءاً واحداً من تفاصيله، كما ذكرناً فى حديثنا عن الاتضاع...

****

ولتكن تداريبك فى صميم حياتك العملية الواقعية...

فإن ما يصلح لغيرك من التداريب، قد لا يصلح لك أنت... وكذلك لتكن تداريبك فى حياة الفضيلة تناسب قامتك الروحية، وتتفق معك حياتك وظروفك من كل النواحى.

ولا تبالغ فى تقييم مقدرتك، بل اسلك باتضاع وحكمة...

وإن فشلت فى تدريبك فى وقت ما. فاستفد من فشلك بإن تعرف اسبابه، وتحاول أن تتحاشاه فيما بعد. وليكن ذلك سبباً فى اتضاعك، وأيضاً يدفعك إلى الأشفاق على الذين يفشلون...