الجسد والروح

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

24/9/2005         

جريدة أخبار اليوم

 

تذكرت مرةً أننا مخلوقون من تراب الأرض، وأننا سنعود مرة اخرى إلى التراب بعد الموت، فقلت فى أبيات من الشعر:

يا تراب الأرض يا جدّى وجدّ الناس طُرّا

 أنت أصلى، أنت يا أقدم من آدم عمرا

 ومصيرى أنت فى القبرِ اذا وُسّدتُ قبرا

على أننى راجعت نفسى، وتذكرت أن التراب هو أصل الجسد فقط، الذى خُلق من تراب أو من طين، قبل أن ينفخ الله فيه نسمة حياة هى الروح. فعدت أصحح فكرى، وأقول فى أبيات أخرى:

ما أنا طين ولكن                             أنا فى الطين سكنتُ

لست طيناً، أنا روح                                    من فم الله خرجتُ

وسأمضى راجعاً لله                                   أحيا حيث كنتُ

وفى الحقيقة ما أنا مجرد جسد، ولا مجرد روح. بل أنا كلاهما معاً، جسد وروح. وهكذا كل إنسان أيضاً...

الجسد والروح متحدان معاً، يكوّنان إنساناً واحداً. غير أن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر. ولذلك كثيراً ما نرى أن الجسد يشتهى ضد الروح، والروح تشتهى ضد الجسد. حتى أن كلاً منهما يقاوم الآخر... مشكلة الجسد أنه مادىّ. لذلك فشهواته تتركز فى المادة وفى كل ما هو مادى. أما الروح فاتجاهاتها سامية، فوق مستوى المادة... الجسد ينشغل بالمرئيات والمحسوسات. أما الروح فيمكنها أن تنشغل بالأمور غير المرئية، بل وبالالهيات أيضاً الجسد يدركه الموت، حينما تنفصل الروح عنه. وبموت الجسد تحل عناصره، ويفقد الشعور والحيوية. أما الروح فلا تموت...

وما أكثر الحديث عن شهوات الجسد الخاطئة، وعن سقطاته الجسد يقع فى شهوة الطعام، وفى المسكرات والمخدرات والإدمان. كما يقع أيضاً فى شهوة الزنا وسائر سقطات الجنس Sex ، كما يقع فى كثير من خطايا اللسان، والإعتداء على الآخرين بأنواع وطرق شتى... وقد تمتد يده إلى السرقة وإلى الرشوة... وما إلى ذلك من أجل هذا، كان كثير من الأبرار ومن النساك، ينظرون إلى الجسد كمصدر للخطية، ويبذلون كل الجهد للانتصار على شهوات الجسد. ويصبح قمع الجسد من الفضائل الأساسية. ولا ننسى أن الصوم فضيلة فى جميع الأديان، وهو فنرة لإنضابط الجسد ليعطى فرصة للروح...

فهل معنى كل ذلك أن الجسد شر فى ذاته كما يتخيله البعض ؟ كلا، بلا شك. فلو كان الجسد شراً، ما كان الله يخلق الجسد. بل الجسد خير اذا لم ينحرف، وإذا لم يقاوم الروح، وإذا لم يخضع لعوامل نفسية خاطئة... أيضاً لو كان الجسد شراً، ما كان الله ينعم عليه بالقيامة والحياة الأخرى. بل كان يكفيه ما عاشه على الأرض، دون امتداد لحياته. ولو كان الجسد شراً، ما كان الأنبياء والرسل يعيشون حياة باره على الأرض، ولهم أجساد..! وكانت أجسادهم طاهرة ومقدسة... الجسد اذن ليس شراً فى ذاته. ولكنه قد ينحرف فيخطئ...

الروح أيضاً يمكن أن تخطئ، سواء كانت وحدها، أو متحدة بالجسد. وأول خطايا عرفها العالم كانت خطايا أرواح !... وأقصد بذلك خطايا الشياطين، وهم أرواح ليس لهم أجساد. وقد وُصفوا بأنهم أرواح شريرة أو أرواح نجسة... الشيطان – وهو روح – وقع فى خطية الكبرياء. ومازال فى كبريائه يتحدى ملكوت الله على الأرض. وفى كبرياء يعصى الله ويكسر وصاياه. كذلك – وهو روح – وقع فى خطيئة الحسد، فحسد الإنسان على ما وهبه الله من نعمة. ولا يزال يحسد القديسين والأبرار ويحاول إسقاطهم. وفى إغرائه للبشر يقع فى خطايا الخداع والكذب بتصوير الشر أنه خير! والشيطان – وهو روح – يقع فى التجديف على الله تبارك اسمه، وينشر الإلحاد والبدع والأفكار المنحرفة.

وكما يخطىء الشيطان وهو روح. كذلك يمكن أن تخطىء أرواح البشر

روح الإنسان قد تخطىء، وتجر الجسد معها فى الخطأ

+  الروح مثلاً قد تسقط فى الكبرياء، ثم تجر الجسد معها فى كبريائها. فيجلس فى كبرياء، ويمشى فى خيلاء، ويتكلم فى عظمة، وينظر فى غطرسة... وتكون الكبرياء قد بدأت فى الروح أولاً ثم تحولت إلى الجسد.

+ الروح قد تفتر فى محبتها لله، ثم تقود الجسد معها فى الفتور، فليكن فى صلواته، ويهمل واجبات العبادة...

+ إن ضعفت الروح، يخور الجسد. وإن بعدت الروح عن الله، ينهمك الجسد فى ملاذ الحياة الدنيا.

+ إن تشبعت روح الإنسان بالكراهية، يمارس الجسد هذه الكراهية. فقد يعتدى على غيره، بيده أو بلسانه أو بقلمه. وهنا نسأل: هل حوادث  القتل ترجع إلى الجسد أم إلى الروح ؟ أم يشترك فيها الجسد مع الروح ؟ وتكون الروح هى البادئة والمشجعة والمخططة !!

+ ومن الناحية الأخرى: اذا قويت الروح، فإنها ترفع الجسد إلى فوق. فالروح المعنوية عند المريض: اذا ما قويت، تجعله يحتمل المرض ويجتاز مراحله الصعبة. وإن ضعفت روحه المعنوية، فإنه يستسلم للمرض وينهار..

+ كذلك فى الصوم: اذا تغذت الروح بالصلوات والتأملات والتسابيح والقراءات المقدسة، فإن الجسد يستطيع أن يحتمل الصوم بدون تعب...

+ وأيضاً الجندى فى ساحة القتال: اذا كانت روحه قوية لا تعرف للخوف معنى، بل تحقرها محبة الوطن، فإنها تدفع الجسد إلى الاستبسال والشهامة..

وعموماً فإننا نجد تجاوباً وتضامناً ما بين الروح والجسد

+ ففى الصلاة مثلاً، إن كانت الروح خاشعة، فإن الجسد يخشع معنويا. تنحنى ركبتاه بالركوع أو بالسجود، وترتفع عيناه فى الصلاة، وترتفع يداه. وإذا لم تكن الروح خاشعة، يكسل الجسد أيضاً...

+ الروح إذ حزنت، ممكن أن ملامح الوجه تعبس، ودموع العين تتساقط. واذا فرحت الروح، تظهر البشاشة على الوجه، وتلمع العينان فى فرح..

+ اذا سلّم انسان على رئيس له، أو على شخص كبير السن أو عالى المقام، فإن الاحترام الذى يكنه فى روحه، يظهر فى انحناء جسده.

+ وتقريباً كل المشاعر التى للروح، تظهر فى حركات الجسد، أو فى نظرات العينين، أو فى لهجة الصوت. أى يكشفها الجسد...

لذلك لا نستطيع كثيراً، أن نمنع هذه الصلة بين الروح والجسد. ولهذا فإن محاسبة الانسان فى القيامة، تكون للروح والجسد معاً... لا يُدان الجسد بدون الروح، ولا تدان الروح بدون الجسد... لقد اشترك الإثنان معاً فى عمل الخير أو الشر. إما أن الروح خضعت للجسد فى شهواته. أو أن الجسد أسلم قيادة إلى الروح، وارتفع معها، وعبرّ عن سموها بأفعاله...

ونصيحتنا لكل انسان أن يقوى روحياته، ويسلك فى السلوك الروحى. وحينئذ سيجد أن جسده يتجاوب مع الروح فى عمل البر

فالجسد يمكنه أن يتعب فى خدمة الآخرين بفرح، وأن يبذل ذاته ليسعد غيره. كما يمكنه أن يتبرع بدمه، اذا كان أحد المرضى فى حاجة اليه. بل أن يضحى بعضو من أعضاء الجسد لأجل حياة انسان آخر... وكل الخدمات الاجتماعية التى نراها فى العالم، وكذلك كل أعمال الانقاذ التى يقوم بها رجال الاسعاف، ويقوم بها من يعملون فى اطفاء الحرائق، وانقاذ المشرفين على الغرق... كلها أعمال يشترك فيها الجسد مع الروح. الروح تدفع، والجسد ينفذ...

ان الله الذى وهبنا الجسد، كما وهبنا الروح، هو قادر أن يعمل فينا لمجد اسمه، ولنشر الخير على الأرض، فى غير تناقص، بل فى تعاون تام بين الروح والجسد.