ميلاد السيد المسيح

فاصل بين زمنين متمايزين

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

6 يناير 2007

جريدة أخبار اليوم

أبنائى وإخوتى الأحباء...

          أهنئكم ببدء عام جديد, وبعيد الميلاد الجديد, راجياً لكم جميعاً, ولكل شعب مصر الذى باركه الرب, أياماً سعيدة هانئة, مملوءة من عمل نعمته.

إن العالم بميلاد السيد المسيح, قد بدأ عصراً جديداً, يختلف كلية عما سبقته من عصور. وأصبح هذا الميلاد المجيد, فاصلاً بين زمنين متمايزين: ما قبل الميلاد, وما بعد الميلاد.

  فما هى هذه الجدة التى أعطت العالم صورة جديدة ما كانت له من قبل؟ أو ما هو ذلك التجديد الذى قدمته المسيحية, حتى قيل فى الإنجيل "الأشياء العتيقة قد مضت, هوذا الكل قد صار جديداً ؟

+  +  +

   لقد قدم السيد المسيح مفهوماً جديداً للحياة, وتعبيرات جديدة لم تكن مستعملة من قبل, ومعانى روحية عميقة لجميع المدركات, حتى بهت سامعوه من كلامه, وصاحوا قائلين "ما سمعنا كلاماً قط مثل هذا"...

   جاء السيد المسيح ينشر الحب بين الناس, وبين الناس والله. يقدم الله للناس  

أباً, يعاملهم لاكعبيد وإنما كأبناء, ويصلون إليه قائلين "أبانا الذى فى السموات".

وفى الحرص على محبته, يفعل الناس وصاياه, لا خوفاً من عقوبته, وإنما حباً للخير. وفى هذا قالت المسيحية :

" الله محبة. من يثبت فى المحبة, يثبت فى الله, والله فيه",

" لا خوف فى المحبة. بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج".

   وهكذا قال السيد المسيح إن جميع الوصايا تتركز فى واحدة. وهى المحبة: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك, وتحب قريبك كنفسك. بهذا يتعلق الناموس كله والأنبياء.

+  +  +

وأدخل المسيح تعليماً جديداً فى المحبة, وهو محبة الأعداء والمسيئين. فقال "أحبوا أعدائكم, باركوا لاعنيكم, أحسنوا إلى مبغضيكم, وصلوا لأجل الذين يسئيون إليكم و يطردونكم". وترى المسيحية فى هذا, أن رد الإساءة بالإساءة, والإعتداء بالإعتداء, معناه أن الشر قد أنتصر, بينما تعليم الكتاب هو "لا يغلبنك الشر, بل إغلب الشر بالخير" , "إن جاع عدوك فأطعمه, وإن عطش فاسقه".            ويجب أن تنتصر المحبة, لأن "المحبة لا تسقط أبداً" , "مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة"...

+  +  +

إن عبارة "الله محبة", عبارة جديدة على العالم, الذى ما كان يعرف سوى الله الجبار المُخيف الذى يخشى الناس سطوته ويترضونه بالذبائح وألوان العبادات...

  وعبارة "محبة الأعداء" , هى عبارة جديدة فى المعاملات الإنسانية, بهت العالم لسماعها من فم المسيح...

+  +  +

وفى المحبة, جاء المسيح أيضاً ببشارة السلام...

 سلام بين الناس, وسلام بين الإنسان والله, وسلام فى أعماق النفس من الداخل.

سلام من الله يفوق كل عقل. ولما ولد المسيح غنت الملائكة "وعلى الأرض سلام". لأنه جاء ليقيم صلحاً بين السماء والأرض, بين الله والناس, بعد أن كانت الخطيئة تقيم حاجزاً بين الإنسان والله...

     وهذا الصلح أراده على الدوام أن يستمر فى العلاقات الإنسانية. فقال "إن قدمت قربانك فوق المذبح, وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك, فاترك قربانك قدام الذبح, واذهب أولاً إصطلح مع أخيك".

ذلك لأن الصلح أفضل من تقديم القرابين.

ويقول الكتاب "أريد رحمة لا ذبيحة". وهكذا قال المسيح أيضاً "كن مراضياً لخصمك سريعاً, مادمت معه فى الطريق ". وقال أيضاً "من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك, فاترك له الرداء أيضاً"...

وأراد السيد المسيح أن ينتشر السلام بين الناس, فقال لتلاميذه "وأى بلد دخلتموه, فقولوا سلام لأهل هذا البيت" , "وصية جديدة أنا أعطيكم, أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم" , "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى, إن كان لكم حب بعضكم  نحو بعض"...

   وفى سبيل السلام, دعت المسيحية الناس, أن يكونوا "مقدمين بعضهم بعضاً فى الكرامة"...

 لأن المحبة يمكن أن تثبت عن طريق التواضع وإنكار الذات وإحتمال الآخرين.

ولهذا قال السيد المسيح "من أراد أن يتبعنى, فلينكر ذاته, ويحمل صليبه ويتبعنى".

وعبارة [إنكار الذات] عبارة جديدة قدمتها المسيحية إلى العالم. وقبل ذلك كانت (الذات) صنماً يتعبد له صاحبه, ويحب أن يكبر ويتمجد...

+  +  +

المسيحية دعت إلى أن ينسى الإنسان نفسه, فى محبته لأخيه.

   إنها المحبة الباذلة التى تعطى باستمرار, وتبذل حتى نفسها. وباستمرار تأخذ "المتكأ الأخير", وتحتمل الكل لكى تربح الكل...

  إنها المحبة التى تختفى لكى يظهر غيرها...

 المحبة التى تقول "ينبغى أن ذاك يزيد, وإنى أنا أنقص". المحبة التى تقول لله "ليس لنا يارب, ليس لنا, لكن لإسمك القدوس أعط مجداً"...

+  +  +

إنه التواضع فى التعامل مع الناس ومع الله.

  الذات التى تختفى, ولا تعلن عن نفسها, بل تفعل الفضيلة فى الخفاء, والآب السماوى الذى يرى فى الخفاء, هو يجازيها علانية. ومن هنا كان تعليم المسيحية "من سعى وراء الكرامة, هربت منه. ومن هرب منها بمعرفة, سعت وراءه"...

وهكذا يقول السيد المسيح تعليماً جديداً على أسماع الناس "من وجد نفسه يضيعها. ومن أضاع نفسه من أجلى يجدها".

+  +  +

ووضع المسيح مقاييس جديدة للقوة.

فالقوة ليست مظهراً خارجياً للقهر والأنتصار على الغير, إنما القوة هى شئ داخلى, فى أعماق النفس, للإنتصار على الذات. فالذى يغلب نفسه خير ممن يغلب مدينة.

  وفى المسيحية, ليست القوة هى أن نقهر الآخرين, إنما أن نربحهم ونحتملهم. فالذى يحتمل غيره هو القوى. أما المعتدى فهو الضعيف. ولهذا يقول الكتاب "أطلب إليكم أيها الأقوياء أن تحتملوا ضعف الضعفاء".

   إن المعتدى ضعيف لأنه مغلوب من خطيئته, مغلوب من العنف, ومن عدم محبته للآخرين, مهما بدا قوياً من الخارج. أما الذى يحتمل فهو قوى, قوى فى ضبطه لنفسه, قوى فى عدم إنتقامه لنفسه...

+  +  +

يعوزنى الوقت يا إخوتى إن حدثتكم عن كل المبادئ الروحية الجديدة التى عرفها العالم بميلاد المسيح.

     إنما يكفى أن نقول أن عصر ما بعد الميلاد كان جديداً تماماً فى مفاهيمه. حتى شرائع الله السامية التى قدمها الله فى العهد القديم, ما كان الناس يفهمونها إذ كان البرقع على عيونهم وقلوبهم وعقولهم, حتى كشف المسيح لهم ما فى الشريعة من جمال وسمو... له المجد من الآن وإلى الأبد آمين.