روحانية الصوم

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

8/10/2005

جريدة أخبار اليوم

 

اهنئ أخوتي المسلمين في مصر، وفي العالم العربي والإسلامي كله، بحلول شهر رمضان، شهر الصوم، الذي هو فترة روحية يرتفع فيها الإنسان فوق مستوى الجسد، ويرتفع أيضاً فوق مستوى المادة.. وتتفرغ فيها الروح للعبادة.. وهذه هى حكمة الصوم.

والصوم الحقيقي، هو الذي يتدرب فيه الصائم على ضبط النفس فإذا ما اتفق ذلك خلال الصوم، يصير ضبط النفس - بالنسبة إليه - هو منهج حياة، يستمر معه.

وشهر رمضان هو فترة نلتقي فيها معاً - مسلمين ومسيحيين - في حفلات افطار رمضانية، نتناول فيها الطعام معاً، ونتبادل عبارات المودة والحب.. ويكون لهذا تأثيره العميق في نفوس الجميع.

***

والصوم ليس مجرد فضيلة للجسد، بعيداً عن الروح!!

فكل عمل لا تشترك فيه الروح، يعتبر فضيلة على الاطلاق، أن عمل الجسد في الصوم، هو تمهيد لعمل الروح، أو هو تعبير عن مشاعر الروح.. الروح تسمو فوق مستوى المادة والطعام، وفوق مستوى الجسد.. فتقود الجسد معها في موكب نصرتها، وتشركه في رغباتها الروحية. ويعبر الجسد عن ذلك بممارسة الصوم.

اننا أن قصرنا تعريفنا للصوم على أنه اذلال للجسد بالجوع والامتناع عما يشتهيه، نكون قد اخذنا من الصوم سلبياته، وتركنا عمله الايجابي الروحي، وهو الأساس.

***

الصوم ليس مجرد جوع للجسد، بل بالأكثر هو غذاء للروح..

ليس الصوم هو تعذيب للجسد كما يطن البعض.. انما الصوم هو تسامي الجسد، لكي يصل إلى المستوى الذي يتعاون فيه مع الروح.

والصائم الحقيقي ليس هدفه ان يعذب جسده، بل هو يقصد عدم السلوك حسب شهوات الجسد، فيكون انساناً روحياً وليس جسدانياً.. الصوم هو روح زاهدة، تشرك الجسد معها في الزهد والصوم ليس هو الجسد الجائع، بل هو الجسد الزاهد، أو على الأقل الجسد الذي يتدرب على الزهد في فترة معينة.

ليس هو حالة الجسد الذي يجوع ويشتهي ان يأكل.. بل الجسد الذي يتدرب على التخلص من شهوة الأكل.. وبالتالي يفقد الأكل قيمته في نظره، من فرط اهتمامه بطعام آخر هو طعام الروح.

***

الصوم فترة ترتفع فيها الروح، وتجذب الجسد معها..

تخلصه من احمال واثقال، وتجذبه معها إلى فوق، لكي يعمل معها من أجل الله بلا عائق، والجسد الروحي يكون سعيداً بذلك..

الصوم هو فترة روحية، يقضيها الجسد والروح معاً في عمل روحي يشترك فيه الاثنان معاً في الصلاة والتسبيح والعشرة الإلهية.

فيصلي الانسان ليس فقط بجسد صائم، إنما أيضاً بنفس صائمة.

بفكر صائم وقلب صائم عن الشهوات والرغبات، وبروح صائمة عن محبة المادة والماديات، في حياة مع الله تتغذى بمحبته ووصاياه..

الصوم بهذا الشكل هو الوسيلة الصالحة للعمل الروحي.. وهو- الجو الروحي الذي يحيا فيه الإنسان جميعه – بقلبه ونفسه، وجسده وروحه، وبحواسه وفكره وعواطفه.. كل ذلك في مشاعر مقدسة..

***

الصوم ليس مجرد علاقة بين الانسان والطعام بل هو فترة مقدسة يشعر فيها الانسان بعلاقته مع الله..

والصوم الذي ليس هدفه القربي من الله ، هو صوم باطل..

الله هو الهدف. فنحن من أجل الله نأكل، ومن أجله نصوم.. من أجل الله نأكل، لكي ينال هذا الجسد قوة يستطيع بها ان يخدم الله، وان يكون أميناً في واجباته التي  كلفه بها الله من نحو الناس.. ونحن من أجل الله نجوع، لكي نخضع الجسد فلا نخطئ إلى الله. ولكي يكون الجسد تحت سيطرتنا، ولا نكون نحن تحت سيطرة الجسد، ولكيلا تكون رغبات الجسد وشهواته هى قائدنا في تصرفاتنا.. انما نسلك حب الروح.

لهذا كله، هناك فضائل لابد أن يرتبط بها الصوم، ليكون مقبولاً عند الله.. وأولى هذه الفضائل هى التوبة..

فالصوم البعيد عن التوبه هو صوم غير مقبول.. والله – تبارك اسمه – يريد القلب النقي اكثر مما يريد الجسد الجائع.

والانسان الذي يصوّم فمه عن الطعام، ولا يصوّم قلبه عن الخطايا، ولا يصوم لسانه عن الأباطيل، فصوم هذا الانسان باطل بل ان الخطية التي يرتكبها الانسان – وهو صائم – تكون عقوبتها أشد. لأنها تحمل كذلك الاستهانة بقدسية أيام الصوم.

لذلك على كل صائم أن يتأكد من أن الصوم قد حوّل حياته إلى مستوى أفضل.. ليس فقط بالامتناع عن خطايا كان يقع فيها قبلاً. بل أيضاً باكتساب فضائل جديدة قد تدرب عليها.

***

هذا ويكون من لوازم الصوم: التدريبات الروحية التي يكتسب بها الصائم صفات من حياة البر كانت تنقصه..

وليسأل الانسان نفسه: كم من اصوام مرت عليه خلال ما مضى من سنوات، دون ان يكتسب فضائل جديدة تضاف إلى روحياته؟!.. وانما هو هو، لم يتغير فيه شئ!! ولم يدفعه صومه إلى درجات في حياة الروح، ينمو فيها سنة بعد سنة.

لماذا لا نراقب انفسنا اثناء صومنا؟ ولماذا لا نحاسب انفسنا: في اية درجة روحية نحن الآن؟ وماذا بذلناه من جهد لكي تكون علاقتنا بالله اكثر عمقاً واكثر قرباً؟!.

***

وكما يرتبط الصوم بالتوبة، يرتبط ايضاً بالغذاء الروحي..

ان أخطر ما يتعب البعض في الصوم، أن يكون الجسد بلا غذاء، والروح أيضاً لا تجد ما تتغذى به، ويصبح الصوم مجرد فترة من الحرمان!! وهذا الحرمان يعطي صورة قاتمة عن الصوم.. فيشتهي البعض متى ينتهي الصوم ليأكلو!!

وغذاء الروح معروف، وهو الصلاة والألحان والتسابيح، والتأمل في كلام الله وعمق وصاياه والتأمل في صفات الله وفي سير الأبرار، والتأمل في الفضائل. وغذاء الروح أيضاً: المشاعر الروحية، والتفكير في السماء وفي الأبدية.

والروح اذا تغذت، تستطيع ان تحمل الجسد، فيحتمل الجسد جوعه..

وترتبط بالصوم ايضاً: اعمال الرحمة واطعام الجياع.

فالانسان الذي جرب في الصوم قسوة الجوع، بالضرورة يشفق على الجياع، ويعطيهم شيئاً من طعامه.. ليس هذا فترة الصيام فقط وانما تصبح فضيلة له ان يهتم بكل جوعان ويعطيه ليأكل.

وهكذا تدخل الرحمة في مشاعر الانسان الصائم.. ولا تقتصر رحمته على اطعام الجياع فحسب، بل تشتمل الفقير واليتيم والمسكين، بكل انواع الاحسان التي يقدر عليها.

***

واخيراً اقول ياأخوتي، ان ايام الصوم هى فترة تخزين روحي للعام كله، تفيض بروحياتها على باقي أيام السنة.

فالصوم ليس مجرد فترة تمر وتنتهي، وتنتهي معها فضائلها ومشاعرها!! كلا.. بل من عمق روحيات الصوم، يأخذ الصائم طاقة روحية تستمر معه بعد انقضاء الصوم أيضاً، وما تعوده خلال الصوم، وما درب نفسه عليه، يتحول بالوقت إلى جزء من طبعه لا يود أن يفقده.

والتوبة التي كانت له في صومه، ليس من السهل ان يزول تأثيرها، وكذلك ما أصلحه في نفسه من طباع وعادات.

فإن تخلصت من خطية في فترة الصوم، اثبت في ذلك، ولا تعد إلى ممارسة الخطيئة فيما بعد.

وليكن هذا الصوم مباركاً في حياتك، وفي حياة كل من يتصل بك، ويراك امثولة يقتدي بها.