الغضب الخاطئ

خطية منفّرة ومُدمّرة

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

28 يوليو 2007

جريدة أخبار اليوم

 

          الشخص الروحى – اذا غضب – يكون غضبه مجرد تعبير عن عدم رضاه على الخطأ. ويكون غضباً لأجل الحق، أو دفاعاً عن الآخرين. وقد يكون بحزم، ولكن لا يفقد فيه أعصابه، ولا يخطئ بلسانه. ومثل هذا الغضب لا لوم عليه. ولكن هناك غضباً خاطئاً، تدخل فيه النرفزة التى هى تلف فى الأعصاب. ومعه قد يعلو الصوت أو يحتد ويشتد، وينفعل الشخص إنفعالاً واضحاً معيباً، ويبدو ذلك أيضاً فى ملامحه وإعصابه. هذا هو الغضب الخاطئ...

** وهذا النوع من الغضب يحمل فى طياته العديد من الأخطاء: فبالإضافة الى ما فيه من حدة وعصبية، فيه أيضاً قساوة قلب. وتزداد هذه القساوة كلما ازدادت حدة الغضب. وقد تصل فى بعض الأحيان الى العنف، والى الضرب والإعتداء.

** وطبعاً فى حالة الغضب لا يحتمل الشخص غيره، وتزول منه مشاعر المحبة، لأن المحبة تحتمل كل شئ وتصفح عن المسئ. أما الغضوب فإنه لا يصفح عن غيره فى اساءاته، أو ما يظن إنها إساءة. ولا يستطيع أن يغفر. وبالتالى يحرم نفسه من مغفرة الله له شخصياً..

** والغضوب يقع فى كثير من خطايا اللسان. فهو تلقائياً يهين من يرى أنه قد أساء اليه، ويحكم عليه أحكاماً. وقد يتلفظ بكلمات جارحة، ويشتم غير محترم لغيره. ويتصرف باسلوب غير لائق، ربما يلومه عليه الناس ويفقدون تقديرهم له. وهو قد يندم أخيراً على ما فعله، حينما تهدأ أعصابه الثائرة ويتوقف غضبه. ولكن بعد فوات الوقت...

** ويكون فى كل ذلك قد وقع فى عدم ضبط النفس، وفى عدم السيطرة على الأعصاب وعلى اللسان. وربما يكون فيما قاله عن غيره أثناء ثورة غضبه، قد ظلمه بأحكام هو برئ منها، أو على الأقل لم يصل أبداً الى مستواها. ولكن فى الغضب يتصور الشخص فى من يهاجمه أفكاراً مبنية على سوء الظن لم تحدث منه ولن تحدث.

** وقد يتطور الغضب بمشاعره الخاطئة فيتحول الى بغضه، وتتحول هذه البغضه الى خصومة والى معارك تستمر. لأن ما يخطئ به الشخص فى غضبه، ربما لا يستطيع أن يعالج نتائجه. فيما تلفظ به من شتائم أو إهانات أو تهديدات أو جرح شعور أو اتهامات ظالمة... هذا كله قد يترك فى نفسية الطرف الآخر تأثيرات عميقة، تحوّل الأمر الى كراهية بينهما...! وهكذا حتى لو تاب الغضوب عن غضبه، ربما تظل نتائج غضبه باقية...!

** ومع الغضب أيضاً تكمن خطية التهور والإندفاع: فغالباً ما يكون الغضب مصحوباً بالتسرع، أو يكون نتيجة للتسرع والإندفاع، ويأخذ فيه الشخص قرارات أو تصرفات غير مدروسة، وهو فى حالة إنفعال..!

          وهذا الغضوب يريد أن ينتقم لكرامته أو لحقوقه، ولرد اعتباره، ويعمل على رد ما يرى أنها إساءة بما هو أشدّ منها!.

** وفى أثناء الغضب يفقد كل فضائل الوداعة والتواضع. لأنه يفقد حلمه وهدوءه، ويفقد اللطف والبشاشة والحنو، ويتحول الى كائن ثائر هائج الطبع. وهو يفقد أيضاً صفات الشخص المتضع، لأنه كما قال أحد الآباء الروحيين "إن الإنسان المتواضع لا يُغضب أحداً، ولا يَغضب من أحد". فالمتواضع يجلب الملامة على نفسه فلا يَغضب. كما أنه يلتمس بركة كل أحد ودعاه ورضاه، لذلك لا يسمح لنفسه أن يغضب أحداً.

** والشخص الغضوب يفقد أيضاً سلامه، ويفقد الكثير من علاقاته، إذ أنه فى غضبه يفقد سلامه الداخلى، سلام القلب والفكر وسلامة الأعصاب، كما يفقد فى نفس الوقت سلامه وعلاقته مع من يغضب عليه. أليست غالبية قضايا الطلاق والمشاكل الزوجية سببها الغضب!! ولاشك أنه فى حالة الغضب يفقد علاقته مع الله، إذ يكسر وصاياه الخاصة بالتسامح والاحتمال وحسن التعامل مع الناس... وعموماً فإن ساعة غضبه تكون ساعة نكد وكآبة له، وربما لغيره أيضاً...

** الغضب أيضاً يكون مصحوباً بالجهل: جهل الانسان بما يفيده وما يضره، وجهله بنظرة الناس اليه فى حالة نرفزته، وجهله بالنتائج السيئة التى لغضبه: حيث يدمر علاقاته مع غيره، وقد يدمر سلام بيته وأسرته، ويدمر اثناء ذلك بعض روحياته. كما أنه قد يفقد وظيفته أو ترقيته، إذ كان غضبه عنيفاً مع رؤسائه فى العمل. وربما فى لحظة يضيع ما بناه فى سنوات! حقاً إن الغضب خطية مدمرة. وكما قال سليمان الحكيم "لا تسرع بروحك الى الغضب، لأن الغضب يستقر فى حضن الجهال"..

** من كل ذلك، نرى أن الغضب خطية مركبة، تحمل فى داخلها كثرة من المعاصى. كذلك فإن هذه النرفزة مضرة على صحة صاحبها: وعلى رأى أحد العلماء الذى قال "إن جسم الانسان أثناء الغضب يفرز سموماً". وفى التعبير العامى نقول عن الغضوب: إن دمه قد تعكّر...

          والغضب قد يتسبب فى أمراض كثيرة، منها إرتفاع ضغط الدم، وأمراض الأعصاب، والسكر، وبعض أمراض القلب والمعدة. وبعض الأشخاص قد يرتعش أثناء غضبه، أو يرتجف صوته وألفاظه!

** ومن نتائج الغضب أيضاً عرقلة الصلاة: فقد يحاول الشخص أن يصلى بعد غضبه، فيجد أن فكره يتشتت أثناء الصلاة، ويسرح فى الأسباب التى من أجلها قد غضب، أو فى نتائج ما حدث وفى مستقبل تعامله مع من أغضبه. ويتصور أموراً عديدة، ويكون كمن يكّلم نفسه، أو يكلم غيره. ويرى أن صلاته التى سرح فيها فى هذا كله، لا يمكن أن تُحسب صلاة. وإنما البركان الذى داخله مازال ينفث حمماً..!

** والغضب باعتباره خطية مكشوفة ومفضوحة، يكون باستمرار معثراً للآخرين، ولا يعطى صورة طيبة عن الذى يغضب ويتنرفز، ويبدو أمام الناس ضعيفاً فاقد الأعصاب، غير مسيطر على نفسه، لا يستطيع أن يضبطها... كما يبدو أنه والشخص الآخر الذى تسبب فى غضبه، كلاهما متشابهان فى الخطأ مع اختلاف النسبة...

** ومن أجل كل هذه الأخطاء التى يشملها الغضب، وكل نتائجه السيئة، فإن فضيلة الاحتمال تبدو مضيئة وذات قدر كبير... ومعروف أن الإحتمال بعيد عن الرغبة فى إثبات الذات ومحبة الكرامة، كما أنه دليل على الرحمة، فيمتزج بفضيلة العفو عن المسئ، ويدل على سعة الصدر وطهارة القلب وسموه. وهو يُوجد دالة عند الله، وتفرح به الملائكة، وينال صاحبه عزاءً على الأرض، واكليلاً فى السماء...

** والانسان الذى يحتمل المسئ، هو بلاشك أقوى من المسئ، وأقوى ممن يغضب بسبب الإساءة. إنه الأقوى لأنه استطاع أن يضبط نفسه فلا يخطئ ولا يرد الإساءة بمثلها. وهو الأقوى فى أعصابه وفى ارادته وفى صبره، وفى انه لم ينزل بنفسه الى مستوى المسئ فى أخطائه لكى يرد عليه بما يستحقه. وبعض الآباء يرى أن المسئ هو شخص ضعيف، يحتاج الى من يحتمل ويقيمه بالصبر من أخطائه وسقطاته...

** أتذكر اننى حينما كنت أعمل فى التعليم منذ حوالى 60 عاماً، أن جاءنى زميل وقال لى "أنا لا أستطيع أن احتمل فلاناً" فقلت له "ولكن الله يأخى مازال يحتمل هذا الشخص فى كل أخطائه اليك والى غيرك، كما يحتمل أخطاء غيره أيضاً. فاصبر أنت عليه، وربما باحتمالك تكسبه ويندم. أما إن رددت عليه، فإن الموضوع سيكبر"...

** أما بعد، فأود أن أقول إن الغضب يكون على أنواع ودرجات. وأنا لم أحدثك إلا عن جانب واحد من الغضب الثائر العدوانى. فإلى اللقاء فى مقال آخر إن أحبت نعمة الرب وعشنا، لكى استكمل معك هذا الموضوع أو أحاول أن أستكمله...