الحكمة "2"

الحكمة والدهاء - مجالات الحكمة

ردود الفعل - بُعد النظر

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

17/12/2005

جريدة أخبار اليوم

 

تكلمنا فى مقالنا السابق عن الحكمة. ونتابع اليوم كلامنا فى هذا الموضوع الواسع.. ونبدأ الحديث عن نقاوة الحكمة.

     فالحكمة قد يستخدمها الخيرون كما يستخدمها الأشرار ايضاً!!

        وعند الأشرار تتحول الحكمة إلى ألوان من الدهاء والمكر والخبث فالأشرار- بكل حكمة أو دهاء - ينجحون فى الأيذاء، وفى تدبير المؤامرات، وحبك المشاكل وإلحاق الضرر بالآخرين.. بكل ذكاء وبطرق قد لا تبدو مكشوفة بحيث يتم لهم ما يريدون دون أن يقعوا فى مسئولية أو تحت أدانة القانون !

*****

وقد يريد أحدهم الشر بغيره، ولكنه لا يفعل ذلك بنفسه، وإنما عن طريق آخرين من معاونيه أو أصدقائه أو المشتركين فى نفس الهدف.. ويعتبر هذه حكمة منه: أن يختفى ويكون خارج الصورة ويبدو بريئاً براءة الذئب من دم ابن يعقوب! ذلك ان ما فى قلبه لا يعرفه أحد وكل اجراءاته واتصالاته هى فى طىَ الكتمان.

وقد تلبس هذه "الحكمة" الخاطئة ثوب الرياء، فينطق الشخص بعكس ما يقصده، ويتظاهر بغير ما ينوى ويسير فى طريقين احدهما ضد الآخر. والمهم انه يعمل الى غايته بجميع الوسائل.

هدفه هو الوصول الى غاية معينة بريئة كانت ام معيبة والحكمة عنده هى الوسيلة الناجحة التى توصله بغض النظر صالحة هى ام شريرة..!

*****

الخير له طريق واحد مستقيم.. والشر له  طرق كثيرة بعضها ملتوية.. لذلك كثيراً ما ينجح الشر. لان الطريق امامه سهل ومتشعب!

من اجل هذا قد يحتج البعض قائلاً: لماذا ينجح طريق الأشرار ؟!

اطمئن كل الغادرين غدراً!! ولكنه نجاح الى حين، ولا يستمر.. كما ان النجاح الحقيقى هو فى انتشار الخير وباستخدام الحكمة بطريقة بارة تريح الضمير وترضى الله القدوس.

*****

الحكمة الحقيقية هى فى عمل الخير والخير امامه اربع انواع: عمل هو خير واضح وعمل هو شر واضح. والاختيار بينهما لا يحتاج الى حكمة لسهولة التمييز.

اما النوع الثالث فهو الذى يحتار امامه الفكر: اهو خطأ ام صواب؟ اويحتار امام نتيجته او وسيلته!

وهذا النوع بلا شك يحتاج الى حكمة وتمييز او على الأقل يحتاج الى مشورة صالحة والى كلمة منفعة تنير الطريق امامه، وهنا تقتضى الحكمة الأعتماد على الاباء الروحيين وعلى المرشدين والحكماء.

*****

والنوع الرابع الذى يحتاج الى حكمة وتمييزفهو التفضيل بين طريقين سليمين لا يدرى الضمير ايهما اصلح؟

كل من الأمرين خير فى ذاته ولكن ايهما أكثر خيراً؟ او ايهما أكثر مناسبة لهذا الشخص بالذات؟ وكثيراً ما يحدث هذا فى أختيار شريك الحياة "فى الزواج" او اختيار نوع التعليم او نوع الوظيفة او التفضيل بين العمل الحر او التوظيف.. وما اشبه ذلك.

اى الامور هو الأفضل والأنسان فى مفترق الطرق؟

الامر يحتاج الى حكمة والى تباطؤ ريثما تتضح الامور، ويفحص الشخص ذاته وريثما يسمع صوت  الله فى قلبه او صوت الله  على افواه مرشديه، يحتاج الأمر الى حكمة الشخص نفسه، او حكمة من ينصحه.

*****

الانسان يحتاج ايضا الى الحكمة فى كل تصرف وفى كل قرار يصدر منه. والانسان الحكيم يلزمه ان يضع امامه ردود الفعل لكل ما ينوى عمله: فقبل ان ينطق بكلمة يعمل حساب وقعها على من يسمعها، وفى كل تصرف له يحسب ردود فعله عند الآخرين: كيف سيفهمونه؟ وماذا  يكون موقفهم ازاءه؟ ولا يقل عن تصرف خاطئ ارتكبه. "قد فعلت ذلك بحسن نيه"! فليس كل الناس يعذرون.

بل يكون فى كل اقواله وافعاله مثل لاعب الشطرنج، الذى قبل ان يحرك قطعة من اللعب مما امامه، يفكر جيدا ماذا سيفعل زميله فى اللعب؟ وما هى احتمالات تحركاته؟ وبماذا يرد عليه فى اى احتمال؟ وماذا سيكون رد ذاك على رده؟ وبماذا يقابل ذلك؟ وهكذا يسبق التفكير الدقيق كل تحرك من الجانبين.

ان التصرفات العشوائية لا تليق بالحكماء بل كل ما يفعلونه انما يحسبون حساب نتائجه قبل ان يفعلوه.

*****

والانسان الحكيم لا ينظر الى الامور من زاويه واحدة بل تكون له النظرة الشاملة التى تحيط بكل الزوايا. كما انه ينظر ايضا الى قدام بشئ من بعد نظر.

لا ينظر الى الامور من جهة نفسه فقط، انما من جهة غيره ايضا سواء كان هذا الغير من الأصدقاء او من الأعداء او من عموم الناس.وهو يحسب حساب المستقبل وكيف تتطور الامور الى ما هو افضل او اسوأ.

وكمثال: فان  كثيرين من رجال الاعمال كان من اسباب ثرواتهم انهم كانوا بعيدى النظر، يحسبون ما يطرأ على السوق فى المستقبل. ومنهم من اشترى بعض الاراضى بثمن بخس وانتظر حتى صار سعرها بالملايين!

*****

والحكمة لازمه ايضا فى امور معينة تبدو حساسة او مصيرية.. فقد يتصرف الانسان بجهل تصرفا يندم عليه كل ايام حياته.. وربما يرتكب غلطة تكون غلطة العمر كله ويندم بسببها او يبكى طول حياته، دون ان ينفعه الندم او البكاء! كل ذلك لانه لم يتصرف بحكمة وحرص.

واحيانا يتحمس شخص لتصرف معين حماسا يملك كل عواطفه بينما هذا الحماس لا يكون فى صالحه وقد يندم عليه وقد يقول بعد فوات الفرصة: ليتنى ما فعلت، ليتنى تباطأت واسترشدت..

لذلك فالمشورة تقدم وجهات النظر الآخرى وتعطى رؤية من زوايا غير واضحة او تقدم تبصرة بنتائج لم يعمل لها حساب.

غير ان البعض قد تمنعه من المشورة ثقته الزائدة بنفسه وظنه انه على دراية بكل شئ ونتائجه. وقد يكون مبالغا جدا فى ثقته بنفسه!

*****

الحكمة ايضا لازمة فى معرفة الفضيلة وفى ممارستها وسنضرب هنا مثلا بموضوع الصمت والكلام؟

فالحكيم لا يصمت حين يجب الكلام. ولا يتكلم حين يحسن الصمت.. وبالحكمة يعرف متى يتكلم؟ وكيف؟ واذا تكلم ماذا يكون قدر كلامه؟ وباى اسلوب يتحدث؟ وهكذا يتكلم بميزان وبروية وحكمة وبفائدة ولا يندم على كلمة يقولها بل يمتدح الناس ما يقول.

والصمت قد يكون فى بعض الاوقات رزانة ورصانة وقد يكون حكمة وتفاديا لاخطاء اللسان.. بينما فى حالات اخرى قد يكون الصمت عن جهل او خوف . واحياناً لا يستطيع الانسان ان يصمت ان كانت كلمة منه تحل مشكلة, او ان كان صمتة يفهم على غير ما يقصده.

*****

تلزم الحكمة ايضاً لمعرفة متى يكون الحزم ومتى يكون العطف وهذاالموضوع مهم فى محيط التربية وايضاً فى مجال الادارة وكذلك فى التعامل.ففى التربية: نرى ان الابن الذى لا يخاف والديه قد يسلك باستهتار دون رادع وربما يصيرمرارة نفس لوالديه. كذلك التلميذ الذى لا يخاف اساتذته، ما اسهل ان يتحول الى طالب مشاغب، لضيع وقت زملائه ويتلف اعصاب استاذه.

على ان المخافة هى مجرد مرحلة فى التربية، تتحول الى مهابة واحترام مع بقاء الحب نحو الوالدين والاساتذة.. وهؤلاء ايضاً عليهم باستمرار ان يخلطوا حزمهم بالحب، ولا تكون معاملتهم حزماً صرفاًً ولا عطفاً صرفاً.. فيعرف الشخص متى يشتد ومتى يحنو؟ متى يوبخ او يؤدب؟ ومتى يكتفى بمجرد النصح والتوجيه. وهذا حسب نوعية الخطأ ومقدارة وايضاً حسب نفسية المخطئ ومدى استجابته.

مثل الطبيب الذى يستخدم احياناً العلاج بالادوية واحياناً تلزم الجراحة. وهكذا كانوا يسمون الطبيب حكيماً، لانه فى حكمة يعرف نوع المرض، ونوع العلاج النافع.