ما هو الإيمان؟

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

23/9/2003

جريدة الجمهورية

 

 

 

كلمة "إيمان" يدعيها كل إنسان يعبد الله.. وربما لا يحياها!

وقد يكون له اسم المؤمن. ولكن ليس له قلب المؤمن!

قد يكون له الإيمان النظري العقلي. وليس له الإيمان العملي. أو قد يكون إيمانه إيماناً ظاهرياً. أو أيماناً شكلياً. أو إيماناً بالاسم! وكل هذا ليس مقبولاً أمام الله.

إن الإيمان ليس هو مجرد عقيدة. إنما هو أيضاً حياة. ويمكن أن تختبر إيمانك بثماره في حياتك. لأنه من الثمرة تُعرف الشجرة.

ليس الإيمان هو أن يُولد الشخص من أسرة متدينة تؤمن بالله. فيصير تلقائياً وبالوراثة مؤمناً بوجود الله! إنما الإيمان له معني أو معاني أعمق من هذا بكثير... نعم له معني قد يشمل الحياة الروحية كلها. وله معني قد يصنع الأعاجيب..

****

الإيمان يرتفع فوق مستوي الحواس:

إنه لا يتعارض مع الحواس. إنما هو مستوي أعلي من مستوي الحواس. وهو قدرة أعلي من قدرة الحواس. التي لها نطاق معين لا تتعداه. فالحواس المادية تدرك الماديات. غير أن هناك أموراً غير مادية. تخرج عن نطاق الحواس المادية.

وحتي قدرة الحواس بالنسبة إلي الأشياء المادية. هي محدودة أيضاً وكثيراً ما تستعين الحواس بعديد من الأجهزة لمعرفة أشياء مادية أدق من أن تدركها حواسنا الضعيفة. فكم بالحري إذن الأمور غير المادية؟!

*****

إن ما يدرك بالعين المادية. يدخل في نطاق "العيان". وليس الإيمان.

فالروح مثلا بشرية أو ملائكية. لا تُري ولا تُدرك بالحواس المادية.

وعدم إدارك الحواس لها. لا يعني عدم وجودها. إنما يعني أن قدرة الحواس محدودة. لها نطاق معين تعمل فيه لا يصل إلي مستوي الروح.

الله أيضاً لا يُدرك بالحواس المادية...

لذلك فإنني عجبت من رائد الفضاء الشيوعي. الذي قال إنه صعد إلي السماء ولم يرَ الله! وقد ظن في تهكمه أنه يمكن أن يري الله بهذه العين الجسدية التي لا تري كثيراً من الماديات! كما أن الله في كل مكان.. في الأرض وفي السماء وما بينهما. ولا يحدّه مكان. فإن كان رائد الفضاء هذا لم يرَ الله علي الأرض. فلن يراه أيضاً في السماء ولا في أي موضع آخر. لأن الله لا يُري إلا بالإيمان. نراه بالروح.

عدم رؤيتك لله بعينك المادية. لا يعني أن الله غير موجود. إنما تفسير ذلك أن عينك قاصرة. ومهما قويت فإن لها نطاقاً محدوداً تعمل فيه. هو نطاق الماديات..

ولذلك قلنا إن الإيمان أعلي من مستوي الحواس.

****

 

والإيمان أيضاً مستوي أعلي من العقل:

إن العقل قد يوصلك إلي بداية الطريق أما الإيمان فيكمل معك الطريق إلي أقصاه.

الإيمان لا يتعارض مع العقل. ولكنه يتجاوزه إلي مراحل أبعد بما لا يقاس. لا يستطيع العقل بمفرده أن يصل إليها.

وما لا يدرك العقل نسميه "غير المدرك". ونحن نقول عن الله إنه "غير مدرك". لأنه أيضاً غير محدود. بينما العقل البشري محدود. ولا يدرك سوي الأمور المحدودة التي تدخل في نطاقه.

العقل يستطيع أن يوصلك إلي مجرد معرفة الله وإلي بعض صفاته. أما الإيمان فيكشف لك ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تدركه عن الله.

*****

العقل قد لا يدرك أشياء كثيرة. ولكنه يقبلها

وليس من طبيعته أن يرفض كل ما لا يدركه.

بل حتي في المحيط المادي. في العالم الذي نعيش فيه: توجد مثلاً مخترعات كثيرة لا يدركها إلا المتخصصون. ومع ذلك فالعقل العادي يقبلها. ويتعامل معها. دون أن يدرك كيف تعمل. وكيف تحدث.

والموت يقبله العقل. ويتحدث عنه. ومع ذلك فهو لا يدركه تماماً. ولا يعرف كيف يحدث ولا معني انفصال الروح عن الجسد!

فإن كان العقل يقبل أموراً كثيرة في عالمنا. وهو لا يدركها. فطبيعي لا يوجد ما يمنعه من قبول أمور أخري فوق مستواه. يحدثه عنها الإيمان.

****

العقل لا يدرك "المعجزة" كيف تتم. ولكنه يقبلها ويطلبها. ويفرح بها!

وقد سميت المعجزة معجزة. لأن العقل يعجز عن إدراكها. ويعجز عن تفسيرها. ولكنه يقبلها بالإيمان. إيمانه بوجود قوة غير محدودة أعلي من مستواه. يمكنها أن تعمل ما يعجز العقل عن إدراكه. وهذه القوة هي الله القادر علي كل شيء.

إننا نحترم العقل. ولكننا في نفس الوقت ندرك حدود النطاق الذي يعمل فيه. ولا نوافق العقل المغرور الذي يريد أن يعي كل شيء. رافضاً كل ما هو فوق مستوي إدراكه.

****

ينبغي للعقل أن يتضع. ويعرف مستواه. ولا يرتئي فوق ما ينبغي له..

وفي الأمور التي فوق إدراكه. يجب أن يسلّم قيادته للإيمان

أما ان أراد العقل أن يحطم كل ما لا يدركه. فإنه سيحطم نفسه أخيراً ويفقد الإيمان. ويحصر نفسه في دائرة ضيقة جداً. هي دائرة إدراكه للمحدود. بل صدقوني إن العقل لا يدرك كيف يعمل العقل!! كيف يفكر؟ وكيف يفهم؟ وكيف يستنتج؟ وكيف يخزن في الذاكرة؟ وكيف يسترجع منها؟ وما هي الذاكرة؟ وما هو العقل الباطن؟ وكيف يعمل؟...

*****

إن الذين يعتمدون علي العقل وحده. بدون الإيمان ودون الروح. اعتاد البعض أن يسميهم بالعقلانيين.

وبينما العاقل يمكنه أن يصل إلي الله. فإن العقلاني قد لا يصل!

والمؤمنون عاقلون. ويحترمون العقل. ويستخدمونه أيضاً في الأمور الدينية وما يتعلق بالله. ويوجد بين المؤمنين فلاسفة وحكماء وأشخاص علي مستوي عالي من الفكر والذكاء. ولكنهم علي الرغم من كل هذا. لا يمزجون العقل بالغرور. ولا يثقون بأن العقل يمكنه أن يدرك كل شيء. وإنما في بساطة واتضاع يعترفون بأن عقولهم محدودة القدرة. وقاصرة عن إدراك كل ما يحيط بالله غير المدرك.. وبالإيمان تقبل قلوبهم وعقولهم ما هو فوق مستوي العقل.

*****

في مجال الإيمان أيضاً: الثقة بوجود أمور لا تُري

وهنا يبدو الفرق بين رجال الإيمان. ورجال البحوث العلمية

أصحاب البحوث العلمية. لا تدخل في نطاق عملهم كل تلك الأمور التي لا تُري. وهم لا يكونون في حالة يقين من شيء. إلا إذا فحصوه تماماً بأجهزتهم ومقاييسهم العلمية. وعلي نفس النهج كل أصحاب المذاهب المادية.

المؤمن مثلاً يقبل فكرة الخلق من العدم. وهي عقيدة عنده

أما الباحث العلمي. فترفض ابحاثه هذا الأمر. ولا يقبل ذلك إلا بالإيمان. إن كان ذلك الباحث مؤمناً.

المؤمن يقبل عقيدة أن الله قادر علي كل شيء. ثم في دائرة يقينه من جهة هذه القدرة غير المحدودة. يقبل أموراً كثيرة. ويريح نفسه من شكوك غير المؤمن ومن بحوثه وفحوصه العديدة.

وهو ليس فقط يقبل ما لا يُري. ويكون موقناً بوجود غير المرئيات. بل أكثر من هذا يعايش ما لا يري. ويركز فيه تفكيره

فما هي تلك الأمور التي لا تُري؟

*****

في مقدمة ما لا يُري بلا شك: الله تبارك اسمه

نحن بكل قلوبنا. وبكل ثقة. نؤمن بوجود الله دون أن نراه.

نؤمن بوجوده في كل مكان. ونؤمن أننا واقفون أمامه في كل موضع. يرانا في كل ما نعمله. ويسمعنا في كل ما نقوله. نصلي اليه ونسجد أمامه. دون أن نراه. ونثق أيضاً أنه معنا. يرعانا ويحفظنا. ونؤمن أنه كليّ القدرة. وكليّ المعرفة.. كل هذا دون أن نري.

حقاً. طوبي لمن آمن دون أن يري.. وما حياتنا الروحية سوي انتقال من نطاق المحسوسات والمرئيات. إلي نطاق ما لا يُري.

غير المؤمن يريد أن يري كل شيء بعينيه. وإلا فإنه لا يصدق.

أما المؤمن فإنه لا يجعل من عينيه حكَماً علي كل ما يؤمن به. ولا كل حواسه ولا المعلومات الظاهرة. بل أن قلبه يوقن بوجود أمور لا يراها بعينيه.

****

ومن الأمور التي لا تُري أيضاً. ونوقن بوجودها بالإيمان:

الأرواح عموماً: سواء الروح البشرية. أو الملائكة وهم أرواح

نؤمن بوجود الملائكة. ونعرف أسماء البعض منهم. وقصصهم مع البشر. وربما لا نكون قد رأينا ملاكاً طول حياتنا. ولكنه الإيمان بما لا يُري.

ونؤمن بأن الانسان له روح. وحينما يموت. نقول عنه إن روحه قد فارقت جسده. ونحن لم نرَ الروح وهي تفارق الجسد.

كذلك إيماننا يشمل مصير الروح. سواء كانت بارة أو شريرة.

وأيضاً نؤمن بعودة الروح إلي الجسد بالقيامة. ومصير الإنسان القائم من الأموات في الأبدية بعد الحساب والدينونة العامة.

وكل هذه أمور لا تُري. ولكننا ندركها بالإيمان. وبما كشفه الله لنا في الوحي. وأيضاً الوحي من الأمور التي لا يدركها العقل. ولكنه يقبلها. علي الرغم من أنها لا تُدرك إلا بالإيمان.

*****

العالم الآخر هو أيضاً من الأمور التي لم ترَ بعد

ولكنه يدخل في نطاق الإيمان. كما تدخل فيه كل عبارات: الأبدية. والنعيم. والجحيم. وجهنم. وكلها أمور لا تري...

حقاً إن العالم الآخر بكل ما فيه. لا يتحدث عنه أحد إلا بالإيمان.

والذي يؤمن بالحياة بعد الموت. إنما يوقن بأمور لا تُري...

هكذا أيضاً السماء والوعود التي وعد الله ابراره وقديسيه. وكذلك الانذارات والعقوبات التي أنذر بها مخالفيه... كلها أمور لا تُري..

*****

من الأمور التي لا تري أيضاً: النعمة والبركة:

نحن لا نري هذه النعمة بعيوننا الجسدية. فهي من الأمور التي لا تُري. ولكننا نلمسها في حياتنا. ونحن نتقبل النعمة من الله بالشكر. علي الرغم من انها فوق ادراك حواسنا. لكننا نتمتع بنتائجها.

وقد تأتينا زيارات من النعمة تشعلنا بمحبة الله. لا نراها ولكن نحسها..

كذلك البركة هي من الأمور التي لا تُري. نؤمن بها. ونسعي إلي طلبها ونوالها. سواء كانت من الله مباشرة. أو من الوالدين. أو من دعاء طيب يصل إلينا من قلب بار.

ما هو مفهوم البركة. هذه التي نؤمن بها؟ نحن لا نستطيع وضع معني محدد للبركة. فهي أوسع بكثير من الألفاظ المحددة. هي أمر نري ثماره في حياتنا. ونقبل هذه الثمار بالإيمان. أما البركة ذاتها. فمن يستطيع أن يراها أو يشخصها؟!

*****

أخيراً. أحب أن أقول ان الإيمان قوة:

إنه القوة التي وقفت ضد عبادة الأصنام. ضد الوثنية. وضد الالحاد. وهو القوة التي كانت في قلوب الشهداء. وشجعتهم علي احتمال كل ألوان التعذيب والتهديد من أقسي الحكام الطغاة...

والإيمان قوة يمكن أن تصنع المعجزات بمشيئة الله...

والإيمان أيضاً قوة في احتمال التجارب التي يستطيع المؤمن أن يحتملها. بينما لا يقوي علي ذلك غير المؤمن.

بل الإيمان قوة يمكن أن تنتقل من شخص إلي آخر.

إن الإيمان - أياً كان نوعه - فهو قوة. يكفي أن يؤمن الإنسان بفكرة ما. حتي تراه يعمل بكل قوة لكي ينفذها. إذ يعطيه الإيمان بها عزيمة وإرادة وجرأة ما كانت عنده من قبل...

حقاً. حيثما يوجد الإيمان. توجد معه القوة. فالصلاة المملوءة إيماناً هي الصلاة القوية التي تستطيع أن تفتح أبواب السماء. وتنال ما تريد. والعظة التي يقولها شخص. وهو مؤمن بكل كلمة فيها. تكون عظة قوية تؤثر في الناس. إذ ينتقل بها إيمانه إلي قلوب سامعيه.