الاستقامة

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

18/11/2003

جريدة الجمهورية

 

 

الإنسان السويّ الفاضل هو إنسان مستقيم: مستقيم في فكره وفي ضميره وفي سلوكه. أمام الله والناس..

كل طرقه مستقيمة: لا هي ملتوية. ولا هي معوجّة. ولا متعرجة. إنما هي مستقيمة. يقولون عنه بالعامية إنه رجل دوغري. والإنجليزية Straight. أو Fair أي حقّاني. لا يسلك في الباطل. ولا يجمع أحياناً بين الباطل والحق! إنه يسير باستمرار في طريق مستقيم. لا ينحرف عنه يمنة ولا يسرة.

بل كل شيء عنده في توازن عجيب. لا يتطرف فيه نحو اليمين. ولا نحو اليسار.

إذن فلنتحدث عن الاستقامة. وما علاماتها؟ وكيف تكون؟ وما محارباتها؟ وكيف نميزها؟

***

الاستقامة ضد التطرف

المبالغة في الطريق الروحي غير مقبولة: سواء كانت مبالغة في الكلام. أو في الوصف. أو في السلوك

فالمبالغة في الكلام لون من الكذب. وكذلك المبالغة في الوصف. ولا تعطي هذه ولا تلك صورة واقعية عن الحقيقة. وعلي الأقل لا تعطي صورة دقيقة. كذلك المبالغة في السلوك ليست مستقيمة. لأنها نوع من التطرف. والذين يبالغون في التضييق علي نفوسهم. يتعودون هذا التضييق. فيضيقون علي الآخرين. وكثيراً ما تكون أحكامهم قاسية وظالمة.. وعن أمثال هؤلاء قال السيد المسيح إنهم "يحمّلون الناس أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل" وأنهم "يغلقون ملكوت الله أمام الناس. فلا هم يدخلون. ولا يجعلون الداخلين يدخلون".

إنهم يصعّبون طريق الفضيلة أمام الراغبين فيها. وقد يوقعونهم في اليأس. أو يسيّرونهم في التطرف مثلهم. وليست هذه طرقاً مستقيمة.

***

والتطرف في الفضيلة ليس له ثبات. وقد يتحول إلي العكس أحياناً!

إنسان قد يبالغ في ممارسة فضيلة ما. بلون من التطرف. وقد يستمر علي ذلك فترة. ثم لا يستطيع أن يستمر عملياً في أسلوب تطرفه. فإما أن يرجع إلي الوراء إلي مستوي أقل بكثير مما بدأ به. أو أن يتظاهر بالثبات فيما هو فيه بأسلوب ريائي. وحقيقته غير ذلك..أما الذي يسير في طريق الفضيلة بأسلوب هادئ وتدريجي ومتزن. فإنه يكون أكثر ثباتاً. وأكثر نمواً. وما أجمل قول بعض الحكماء:

"قليل دائم. خير من كثير منقطع"

أي أن عملاً روحياً معتدلاً. ولو بدأ بسيطاً. ويستمر فيه الشخص فترة طويلة حتي يثبت ويستقر. ثم ينمو بطريقة هادئة تدريجية ولكنها راسخة.. هذا أفضل بكثير من قفزة طائشة. تنتهي إلي نكسة!

إن الخط الذي يعلو ويهبط في غير استقرار. ليس هو خطاً مستقيماً.. وهكذا الذبذبات في الحياة الروحية. لا تتفق مع استقامة المسيرة.

***


الاستقامة ضد الباطل

إن كان من الخطأ التطرف حتي فيما يظنه الإنسان خيراً. فماذا تقول إذن عن الباطل والتطرف فيه؟!!

قد يسلك الإنسان في الباطل عن طريق الجهل. ومع ذلك يحكم عليه بأنه غير مستقيم في سلوكه. لأن تصرفه كان ضد الحق والبر. سواء كان يعرف ذلك أو لا يعرف.. وما أعمق قول سليمان الحكيم "قد توجد طريق تبدو للإنسان مستقيمة. وعاقبتها طرق الموت"!

أحياناً قد يصوّر الكبرياء للإنسان أن كل تصرفاته مستقيمة. وربما تكون الحقيقة عكس ذلك تماماً. وكما قال الحكيم "طريق الجاهل مستقيم في عينيه".

الاستقامة يلزمها قلب متضع: يدرك الخطأ. ويصحح أسلوبه لكي يكون مستقيماً. أما المتكبر فيستمر في عدم الاستقامة. لأنه يرفض الاعتراف بخطأ طريقه! وهكذا نري الصلة قوية بين الاستقامة والاتضاع.

***

وقد يسلك إنسان في الباطل نتيجة مرض نفسي. فيفقد استقامة طريقه:

كإنسان في مرضه النفسي يظن أن كثيرين ضده يضطهدونه! فيكره البعض منهم. ويقاوم البعض. ويشكو من جميعهم. وقد يشتم هذا وذاك. وتتعقد نفسيته. ويظن أن أخطاراً تترصده. حيث لا يوجد خطر ضده علي الإطلاق! وفي كل هذا يفقد استقامة سلوكه نتيجة لمرضه النفسي..

حتي لو كان هذا الشخص في حالة من المرض لا توقعه في مسئولية ولكن ذلك لا يمنع من أن السلوك غير مستقيم..الباطل هو الباطل. سواء أدين عليه صاحبه أم لم يُدن.. وربما الإنسان المريض نفسياً أو عقلياً. لا نقول عنه إنه غير مستقيم. ولكن نقول عن تصرفاته إنها غير مستقيمة.

***

أيضاً قد يوجد إنسان يحاول أن يجمع بين الحق والباطل. وهذا غير مستقيم

ففي الباطل الذي يرتكبه يكون غير مستقيم. ولا يشفع فيه الحق الذي يمارسه. بل الباطل يشوّه ذلك الحق. ولا يعتبر الإنسان غير مستقيم. إذا ما ارتكب جميع الخطايا. بل تكفي خطيئة واحدة تصمه بعدم الاستقامة.

أما إذا اعترف الإنسان بأنه أخطأ في ما ضمه إلي تصرفاته من الباطل. فإنها تعتبر توبة. إذا لم يعد إلي ذلك مرة أخري.

ولكن الخطر هو أن شخصاً يعتبر الباطل الذي فيه لوناً من الاستقامة!!

وذلك بأن يُلبس الخطيئة ثوب الفضيلة. ويعتبر أنه علي حق في كل أخطائه. بل لا يسميها أخطاء!! وبالتالي تستمر معه. لا يتوب عنها. ولا يغيّر مبادئه ولا أسلوب تقييمه للأمور..!

مثل هذا الشخص تصبح عدم الاستقامة الفكرية والضميرية عنده. سبباً في استمرار عدم الاستقامة في سلوكه. كطبع من طباعه..!

***

ما أخطر عدم الاستقامة في الضمير. حين تختل جميع موازين الإنسان وقيمه!

ويصبح حكمه علي الأمور غير مستقيم. ويرتكب الخطيئة أو الإثم بضمير مستريح. أو بضمير مريض. أو ضمير واسع غير مستقيم..!

أمثال هذا النوع من الناس. يحتاجون إلي توعية وإرشاد. أو يحتاجون إلي تربية روحية علي أساس سليم. لإصلاح موازينهم وأحكامهم. فالذين يقبلون التعليم منهم. يكون هناك رجاء في عودتهم إلي الاستقامة فكرياً وضميرياً. وسلوكاً..علي أن البعض قد يحاول الجمع بين الحق والباطل بطريق الرياء!

***

الاستقامة ضد الرياء

الذين يسلكون بالرياء. يحاولون أن يبدو ظاهرهم من الخارج مستقيماً!

بينما هم في الداخل عكس ذلك. فيظهرون للناس أبراراً وهم خطاة. قلوبهم غير مظهرهم الخارجي. وربما واقعهم العملي في بيوتهم. غير سمعتهم في المجتمع. هم كالمدافن المبيضة من الخارج. وفي داخلها عظام نتنة!..وبالرياء يجمعون بين نوعين من عدم الاستقامة. أولها داخلهم غير المستقيم. والأمر الثاني هو تظاهرهم بالاستقامة. وهو تظاهر غير مستقيم!

ويقعون بذلك في خطيئة مزدوجة. لأنه إن كان من يفعل خيراً أمام الناس لكي يروا بره. يقع في خطيئة.. فكم بالأكثر الذين يكونون غير مستقيمين. ويظهرون أمام الناس بصورة الاستقامة!!

إنهم يذكروننا بيهوذا الذي قبّل السيد المسيح بينما الخيانة في قلبه!

***

وبالمثل كل خيانة تحمل إلي جوار خطيئتها.. عدم استقامة..

إن العدو الذي يجاهر بعداوته. غير الخائن الذي يتظاهر بالحب والصداقة. وهو يدبّر مؤامرته لصديقه! هنا عدم استقامته مزدوجة: فيها المؤامرة والخيانة. وفيها الرياء.

إن الإنسان المرائي يكون غالباً ذا وجهين وذا لسانين. ومتدرباً علي أن يلعب علي حبال كثيرة: مع الشخص. ومع خصمه في نفس الوقت!

وكثيراً ما ينكشف أمر المرائي. كما قال الشاعر:

ثوب الرياء يشفّ عما تحته:. فإذا التحفت به فإنك عاري

***

يدخل في هذا الموضوع أيضا كلمات النفاق والتملق والمديح الكاذب:

كل هذا النوع من الناس تنقصه الاستقامة في سلوكه وفي كلماته. كما يدل النفاق والملق علي صغر النفس. وعلي غرض في الداخل يلجأ إلي سلوك رخيص يضرّ به غيره كما يضرّ به نفسه.

أما الإنسان المستقيم: فإن قال كلمة حب أو مديح بشفتيه. يكون قلبه أيضاً بنفس المشاعر. ويكون عقله مقتنعاً بما يقول.

لا تناقض عند المستقيمين بين القلب واللسان. إنما التناقض يوجد عند المرائي أو المنافق. الذي يتكلم بكلام المديح أمام صاحبه أو رئيسه. وقد يقول العكس في غيبته..!

الغيبة أيضاً تدل علي عدم الاستقامة.

***

الإنسان المستقيم لا تقوده سياسات وأغراض. ولا تغيّر ضميره ولسانه

فلا يسلك في الرياء ولا في النفاق. من أجل غرض يريد أن يحققه. أو لأجل شهرة يحصل عليها. أو في سبيل الانضمام إلي تيار معين. إنما هو هو: من الداخل كما من الخارج.

ليس هو شخصين. بل هو شخص واحد. لا يخالف ضميره. لكي يرضي بكلامه أو تصرفه. ولا يقول إلا ما يؤمن به في قلبه أنه حق.

إن الرياء ضد الاستقامة. لأنه محاولة غير مستقيمة للجمع بين طريقين متضادين. بأسلوب الخداع والكذب.

***

الخداع والكذب ضد الاستقامة

والذي يكذب يجمع الأمرين معاً. لأنه يحاول بكذبه أن يخدع غيره. وبالكذب يخترع أباطيل تدل علي عدم استقامته... قال الشاعر:

لي حيلة فيمن ينمّ :. وليس في الكذاب حيلةْ

من كان يخلق ما يقول :. فحيلتي فيه قليلةْ

أما الإنسان المستقيم. فهو إنسان صريح وواضح.. ولا يكذب ولا يخادع. ولا يصل إلي غرضه إلا عن طريق الحق. لذلك فهو موضع ثقة من الناس بعكس من يلجأ إلي الكذب والخداع وهما طريقان غير مستقيمين.

إن المستقيمين يحتقرون في داخلهم من يحاول أن يصل إلي غرضه عن طريق الخداع. وإن وصل. يعتبرونه وصولاً رخيصاً.

الخداع ضد الحق. والإنسان المستقيم هو إنسان حقاني. لا يقبل علي نفسه أن يظلم أحداً. ولا يقبل علي نفسه أن يكون مخادعاً.

إنه يؤمن. ليس فقط باستقامة الغرض والهدف. إنما أيضاًَ باستقامة الوسيلة. لذلك فهو يرفض التحايل.

***

التحايل ضد الاستقامة

الإنسان غير المستقيم. إذا لم توصله استقامة الوسيلة. يلجأ إلي الحيلة. فإن لم يجد حيلة سليمة. فإنه يلجأ إلي التحايل.

ومن ضمن ذلك: اللف والدوران.. علماً بأن الخط المنحني ليس خطاً مستقيماً. والخط الدائري ليس كذلك.. والإنسان المستقيم يرفض كل طرق اللف والدوران التي يحاول بها أن يخفي غرضه. لكي يصل بأسلوب غير ملحوظ. أو يبدو غير مقصود!

لذلك فهو يرفض سياسة السبب الثاني أو الثالث.. هذه التي يستخدمها البعض. مخفين السبب الأول أو السبب الحقيقي. ومقدمين أسباباً أخري ثانوية أقل أهمية.. وربما تكون تلك الأسباب الثانوية من الأمور التي يهتم بها السامع. ولا علاقة أساسية لها بالموضوع. وذلك لكي ينالوا موافقته بأي الطرق.

إن السبب الثاني حتي لو كان حقاً. ليس هو صدقاً خالصاً. وذلك بإعطائه أهمية تخدع السامع..! واستخدامه نوعاً من التحايل.

***

كذلك أيضا المبالغة: سواء في تقييم الأشياء ونوعياتها. أو المبالغة في وصف منافعها أو مضارها. لكي توصل السامع إلي اقتناع معين ما يلبث أن يكتشف زيفه بعد حين..

كلها أساليب لا تتفق مع الاستقامة. ولا تتفق مع احترام المتكلم لضميره أو احترامه لضمائر غيره.