الوقت

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

6/5/2003

جريدة الجمهورية

 

 

عجبت لأشخاص يبحثون جادين عن طريقة لقتل الوقت!

فإن وجدوا ذلك يسرّون جداً ويفرحون ويسرعون للتنفيذ!

غير عالمين أن الوقت هو جزء من حياتهم. فمن يقتل الوقت. إنما يقتل جزءاً من حياته. فعرفت أن هؤلاء. حياتهم رخيصة في أعينهم!

وعجبت أيضا لأشخاص يدركهم الملل والضجر. فيخرجون من بيوتهم بلا هدف باحثين عن وسيلة تريحهم من هذا الملل. فإن وجدوها يهبونها وقتهم! فعلمت أنهم يعيشون في فراغ لا يجدون ما يشغلهم.. وهؤلاء أيضا. حياتهم ثقيلة عليهم. لذلك ينفقون وقتهم عبثاً. بلا هدف تعود فائدته عليهم أو علي غيرهم..!

فأشفقت علي هؤلاء وأولئك. إذ لم يدركوا بعد طعم الحياة الحقيقية. كما لم يدركوا الهدف الذي لأجله خلقهم الله!

***

ورأيت في طريق الحياة نوعين من الناس: أحدهما لا يكفيه وقته لقضاء مهامه الكثيرة. فيستأجر آخرين لقضائها.

بينما آخرون يجلسون في سوق الحياة. يبحثون عمن يستأجرهم: فيأخذ جزءاً من حياتهم. ويمنحهم عنه أجراً..!

وعجبت لهذه المفارقة الموجودة بين العامل وصاحب العمل: بين البائع والمشتري في محيط الوقت. وما يتبع ذلك من مساومة في ثمن الوقت المعروض للبيع!

وقد يبيع البعض غالبية وقته. ومعها صحته أيضاً. بحيث لا يجد وقتاً لراحته. ويستمر هذا الأمر يوماً بعد يوم.

وأعجب من هذا. من يبيع وقته بثمن زهيد! وكذلك من يشترط في شراء وقت غيره أن يكون ذلك بأقل سعر ممكن! ولعل السبب في ذلك هو عدم احترامه لوقت من يبيع له الوقت. أو عدم احترامه لمواهبه. أو لعل السبب هو كثرة عدد الراغبين في بيع وقتهم. والمعروف أنه إذا كثر العرض. قل الطلب.

***

وأعجب من كل الذين ذكرتهم. نوعية أخري وهي:

أولئك الذين يضيعون وقتهم. وينفقون مالاً علي إضاعته

أو هم علي أنواع حسب طريقة إضاعة الوقت:

* منهم الذين تعودوا ارتياد أماكن الملاهي في مواعيد متقاربة حيث يضيعون وقتهم. وربما أخلاقهم أيضا. وينفقون علي هذا الضياع الكثير من مالهم.

* ومنهم الذين يذهبون إلي صالات الرقص وأندية القمار "الميسر". وقد يفقدون كل مالهم. وربما يستدينون. ويغرسون في أذهانهم مناظر. وفي قلوبهم مشاعر لا تليق. بالإضافة إلي صحبة شريرة تساعدهم علي ضياع أكثر.

* مثال آخر: الذين يشترون الكتب والمجلات الجنسية التي تفسد أخلاقهم. والذين يشترون الكتب الالحادية التي تفسد عقائدهم. ويقضون في القراءة مما يؤول إلي خسارتهم روحياً وفكرياً.

***

نوع آخر من الناس يقضون وقتهم في التافهات:

في أنواع من اللعب والتسلية. حتي لو كان هذا الأمر بريئاً. وليست فيه أية خطيئة. إلا أن طول الوقت فيه أزيد من اللزوم. هو ضياع للوقت الذي كان يمكن استخدامه فيما هو أنفع.

وهكذا فإن الذين يقضون معظم وقتهم في المقهي: أو في الكازينو. أو في النادي.. في أحاديث تافهة لا تفيدهم بشيء.. هؤلاء لا يعرفون قيمة لوقتهم. ولم يستخدموه في بناء أنفسهم أو في بناء غيرهم.

لذلك اسأل نفسك باستمرار: هل وقتك معك أم عليك

أي هل أنت تستفيد منه. أم تستخدمه في الاضرار بنفسك أو بغيرك؟ أم أنت تريد أن تتخلص منه بأية الطرق؟

***

 

هناك وقت يقضيه الشخص في الخطية. سواء في السعي إليها. أو في ارتكابها. أو التدبير لها.

وهذا الوقت كله ضده. محسوب عليه. في الدنيا وفي الآخرة. وقد يقضي أوقاتاً أضعافه في الندم عليه. وفي احتمال تأنيب ضميره. أو في محاولة معالجة نتائج الخطايا التي ارتكبها فيه.

وقد تتحول بعض هذه الخطايا إلي عادات ثابتة يعسر عليه أن يقاومها. وهذا أيضا يستغرق وقتاً آخر أطول وأعمق.

وربما يشترك في الخطايا مع غيره. فيضيع وقتهم أيضا. وتصبح خطيئته مزدوجة. بالنسبة إليه وإلي غيره.

***

إذن هنا أشخاص لا يضيعون وقتهم بحسب. بل يضيعون وقت الآخرين كذلك معهم.

* من أمثلة هؤلاء من يتصل بغيره بالتليفون. ويظل يتحدث ويتحدث إلي غير نهاية. ولا يراعي وقت من يتحدث إليه. وهل هو متفرغ له أم لا؟ وهل هذه المكالمة التليفونية تعطله عن بعض مشغولياته الهامة؟!

ولكنه إذ لا يقيم أهمية لوقته الخاص ولا يبالي بضياعه. كذلك هو لا يعطي قيمة لوقت غيره. يظنه أنه مثله!!

* ومن الأمثلة الأحاديث العادية الطويلة. في غير التليفون. وقد تكون في أمور تافهة. لا تفيد قائلها ولا سامعها! أو كشخص يُسأل في موضوع ما. فبدلاً من أن يجيب بجملة يجيب بمحاضرة. أو ينقل خبراً لغيره. فينقله بإطناب شديد غير مستحب وفيه إضاعة للوقت. وينسي خلال ذلك المثل القائل "خير الكلام ما قلّ ودلّ" ليت جميع الناس يتدربون علي الإجابات المختصرة. وبهذا لا يضيعون وقت غيرهم. كما أنهم لا يصيبونه بالملل والضجر.

***

كذلك إضاعة وقت الناس قد يأتي عن طريق بعض الزيارات:

وبخاصة الزيارة التي يقوم بها صديق لإحدي العائلات فجأة بدون خبر مسبق. معتمداً علي الدالة التي بينهم وبينه. غير واضع في نفسه ظروفهم الخاصة: وهل مستعدون للزيارة أم لا؟ ويظل يتكلم ويفتح المجال لموضوعات كثيرة. وقد يكون وقت الزيارة غير مناسب إطلاقاً. بسبب وجود تلاميذ من أفراد الأسرة يستعدون للامتحانات. ويحتاجون في الاستذكار إلي وقت هاديء. يزعجهم فيه أحاديث هذا الضيف الصديق وصوته العالي.

وقد يكون حديث هذا الضيف في مسك سيرة الناس. فتكون المشكلة ليس في إضاعة الوقت بحسب بل في نوعية الكلام أيضا. وما يسببه ذلك من بلبلة وتشويش وازعاج.

***

الإنسان الحكيم: يبعد عن إضاعة الوقت. وعن الاخطاء فيه. كذلك يقيم توازنا في توزيع وقته.

وكما قال سليمان الحكيم: "لكل شيء تحت السماوات وقت". "للكلام وقت. وللصمت وقت" "للضحك وقت. وللبكاء وقت".. فلا يكون اللهو في وقت الاستذكار. ولا تكون قراءة الجرائد في وقت العمل. ولا يكون المزاح في وقت الجدية.

بل يختار الإنسان التصرف المناسب في الوقت المناسب حتي بالنسبة إلي السياسة الخارجية للدول. يحسبون بحساب دقيق: ما هو الوقت المناسب للحرب؟ والوقت المناسب لمعاهدة السلام.

***

وعلي الإنسان أن يوزع وقته بعدل علي كافة واجباته ومسئولياته

بحيث لا يهمل أياً منها علي حساب مشغوليته بمسئولية أخري!

فمثلاً رجل أعمال ناجح جداً في إدارة أعماله ومشهود له بذلك. لا يجوز في مشغوليته بعمله. أن يهمل بيته: زوجته وأولاده وباقي أفراد أسرته. فلا يعطيهم ما يحتاجون إليه من حب وحنان ومشاعر الاهتمام بهم!

أو إنسان نشيط في كل مسئولية تعهد إليه. ويعمل بكد وجدّ. ليلاً ونهاراً. ولكنه في نفس الوقت لا يراعي مسئوليته نحو صحته. فيمرض أو يصيبه الضعف. ولا يستطيع أن يكمل مشواره في الحياة!

إن الإنسان الحكيم يقيم توازناً في حياته بين الراحة والتعب..

لا يتمادي في الراحة. بحيث يصل إلي الكسل والخمول. ولا يتمادي في التعب. بحيث يصل إلي الانهاك والاجهاد. بل يكون حكيماً ومعتدلاً في كلا الحالين: يعطي وقتاً للجهد. ووقتاً للاسترخاء.. وقتاً للتفكير العميق. ووقتاً للراحة من كد الذهن. لأن التطرف في كل من الأمرين ضار به.

***

 

وفي عملية التوازن. يراعي ما يحتاجه كل من عقله وروحه وجسده..

فيعطي وقتاً لكل من هذه العناصر التي تتكون منها بشريته.

* فيعطي وقتاً لبناء عقله وثقافته. فيحاول أن يزداد كل يوم في المعرفة. وفي تداريب للذكاء وللذاكرة. والنمو في سرعة البديهة وفي القدرة علي الاستنتاج. وعلي طرق كل موضوع من كافة زواياه. وأن يضع أمامه ردود الفعل لكل ما ينوي أن يعمله. قبل أن يعمله!

ولذلك يجب أن يعطي وقتاً للقراءة النافعة والاستفادة من خبرات الحكماء وذوي المعرفة.

* كذلك ينبغي أن يعطي وقتاً لروحياته الخاصة. من جهة العبادة والصلة بالله ومعرفة وصاياه. ووقتاً للصلاة والتأمل والقراءة الروحية. وللترتيل وتسبيح الله. إن الإنسان ليس مجرد عقل. بل أيضا روح ينبغي أن يعطيها غذاءها.

وله أيضا جسد ينبغي أن يعطيه وقتاً للراحة. والرياضة إن أمكن. ووقتاً يتناول فيه طعامه بنظام وبفائدة. ومعروف أن صحة الجسد لازمة للعقل. ويقول المثل "العقل السليم في الجسم السليم".

***

كذلك ينبغي أن يكون وقتنا ثميناًَ عندنا

وأن نستخدمه في النفع والإنتاج وبناء المجتمع.

نشعر بقيمة الوقت. فهو ثروة أكثر من ثروة المال. ونحاول أن نستفيد من كل دقيقة في عمل بناء. ولا نضيع وقتنا عبثاً.

فالذي يحترم وقته. سيحترمه الآخرون ويحترمون وقته. وإذ يرونه حريصاً علي كل ساعة. بل وكل دقيقة. سوف يخجلون إن حاولوا إضاعة وقته في أمور تافهة أو قليلة الفائدة.

* ومن أمثلة الحريصين علي وقتهم والمنتفعين به: طلاب العلم. والعلماء. والمخترعون. والفلاسفة. والقادة والرؤساء.

* فطالب العلم إن أتم دراسته الجامعية. يحاول أن يحرص علي وقته. ليستغله في دراسة عليا والحصول علي درجة أكبر.

* والعلماء في شغفهم بالعلم يستغلون وقتهم في المزيد من المعرفة حيث يكتشفون أشياء جديدة. أو يقدمون للعالم اختراعات جديدة نافعة. أو علي الأقل يقدمون بحوثاً علمية جديدة تصبح ذخيرة للأجيال.

***

ومن الحريصين علي الوقت والعارفين بقيمته: أصحاب الإنتاج الفكري

أيا كان نوع هذا الإنتاج: في الأدب. أو الفلسفة. أو الفن. أو الاجتماع. كلما يصل الواحد منهم إلي فكر جديد نافع. يفرح قلبه جداً بهذا الفكر. ويعلنه فيفرح الناس كمزيد من المعرفة.

إن المفكرين هم عقل العالم المنتج. وربما فكر واحد يؤدي إلي خير جزيل. فالمفكرون في مجال الأدب والموسيقي. يضيفون إلي العالم متعة جديدة. هم يتمتعون بها أيضا. والمفكرون في مجال العلم. يقدمون له تسهيلات في الحياة.

والمفكرون في مجال الاجتماع. يقدمون له حلاً لمشاكله. وتنظيماً لحياته الاجتماعية. أما الفلاسفة فيقدمون للعالم عمقاً في الفكر.

وكل هؤلاء وأولئك. الوقت ثمين عندهم. من واقع استخدام الوقت في الإنتاج. وفي الفائدة التي يشعر بها الكل.

***

هناك نوع آخر حريص علي وقته. وهو الذي يعمل علي الاستعداد للأبدية. وللقاء مع الله.

سواء بالتوبة. وتنقية القلب والفكر من كل خطية. والعمل علي امتلاء القلب من الإيمان ومحبة الله. ومن محبة حياة الفضيلة البر أو بقضاء جانب كبير من الوقت في خدمة الآخرين. ومساعدة الآخرين. وجذبهم إلي حياة البر وطاعة الله.

تصوروا فرضاً. لو أن الله أرسل ملاكاً ليخبر إنساناً أن حياته علي الأرض ستنتهي بعد أسبوع. كيف كان هذا الإنسان سيستغل وقته خلال هذا الأسبوع استعداداً لأبديته.

إنه سيكون وضعاً مثالياً لاستخدام الوقت في الخير.