نفوس غير مريحة

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

20/5/2003

جريدة الجمهورية

 

 

 

تكلمنا في المرة السابقة عن النفوس المريحة. ولتكملة الموضوع نود في هذا المقال أن نتحدث عن النفوس غير المريحة. وأنواعها وأمثلة منها..

 

منها النفوس النكدية. التي تتصف بالنكد :

 

هناك أشخاص - وبخاصة في المجال العائلي - يظنون أنهم يحاولون حل مشاكلهم عن طريق النكد. فبدلا من التفكير العملي العاقل في تناول المشكلة وكيفية التصرف فيها. تبدأ الكآبة والبكاء والشكوي الدائمة. والحزن. والتذمر. وترداد الحكايات عما حدث وما يمكن أن يحدث.. مما يسبب الانهيار والحيرة!!

ولهذا فإن بعض أفراد الأسرة الذين يبحثون عن سلامهم القلبي. يضطرون الي الهرب من البيت. واذا استمر جو النكد بين الزوجين. قد ينتهي بهما الأمر الي محاكم الأحوال الشخصية. وربما إلي الانفصال أو الطلاق. إذ يشعر الواحد منهما أنه يتعامل مع نفسية غير مريحة.

***

ومن صفات بعض النفوس غير المريحة: كثرة التحقيقات:

 

بحيث يشعر الشخص أنه محاصر بجو من الأسئلة تضيّق الخناق عليه. لتعرف تفاصيل التفاصيل: ماذا فعلت ؟ وأين كنت؟ ومن قابلت؟ ومتي؟ وما موضوع الحديث؟ وماذا قلت؟ وماذا قيل لك؟ وما ردود الفعل؟ وما النتيجة؟؟..

ومهما بدا أنه تضايق من هذه التحقيقات. تظل الأسئلة تلاحقه بغير هواده. وبغير مراعاة لنفسيته وإحساساته. إنها أسئلة متطفلة صادرة من نفس غير مريحة. وربما لا تكون لها صفة تسمح لها بكل هذا التحقيق. ويكون الحل الحاسم هو الهروب من أمثال هؤلاء الأشخاص.

ولعل هذا النوع من الناس له شبيه آخر. فما هو؟

***

 

من النفوس غير المريحة. من تتدخل في خصوصيات الغير:

 

كل انسان له خصوصياته Privacies يجب أن يحتفظ بها. ولا يشاء أن يكشفها لكل أحد. ويجب أن يحترمها الآخرون..

لهذا نجد في كثير من البلاد الغربية: اذا وصل خطاب لإبن في البيت. لا يستطيع الأب أو الأم أن يفتحه. وكذلك إن وصل خطاب إلي الزوجة. لا يفتحه الزوج. وإنما بالحب الذي بين أفراد الأسرة. يكشف صاحب الخطاب ما جاء فيه. أو بعضا مما جاء فيه لأسرته. دون أن يطالبوه بذلك..

ولكن المتعب أن بعضاً من المعارف يتدخلون في خصوصيات من يعرفونه بطريقة يريدون بها أن يعرفوا كل شئ عنه. سواء في حياته الخاصة. أو حياته العملية. أو حياته العائلية. كما لو كانوا يترصدون حركاته. أو يرسلون من يتتبع أخباره ويقولها لهم. إنهم يتطفلون علي حياته وخصوصياته بطريقة متعبة!

وإن لم يخبرهم بأسراره. يتهمونه بعدم الحب. وبعدم الإخلاص في صداقته. ويسألونه: ماهذا الشئ الذي تكتمه عنا؟ وإن كان يمثل خطرا أو خطأ في حياتك. قل لنا ونحن نقف الي جوارك!

***

ومن صفات النفوس المتعبة أيضاً. الشك:

 

فهناك نفوس من طبعها الشك. أناس يشكون في صدق غيرهم. وفي محبته. ويشكون في أقواله وفي أخباره. بل يشكون أيضا في سلوكه. ويبدو الشك في طريقة كلامهم. وفي لهجة صوتهم. وفي نظراتهم. وفي نوع أسئلتهم..

وليس أحد يقبل أن يكون موضع شك. معتبرا ذلك ضد كرامته. لذلك فإنه يتحاشي هؤلاء الذين يتعبونه بشكّهم.. ويود أن يتعامل فقط مع الذين يقابلونه بروح الثقة والاحترام. فإن الثقة تولد ثقة متبادلة. والاحترام يولد احتراماً. وكل إنسان يستريح الي الذي يثق به..

***

 

أيضا من صفات النفوس غير المريحة: الإلحاح والملاججة:

 

هناك أشخاص في كل مايريدون. يستخدمون اسلوب الإلحاح والضغط في الطلب. فإن أرادوا شيئا من أحد. يلحون عليه بطريقة متواصلة متتابعة. في كل يوم. وربما مرات في اليوم الواحد. ولا يعطونه فرصة للتفكير أو للتدبير. ولا يعطونه مجالا للاعتذار. وربما يكون ما يطلبونه فوق طاقته. أو لا يريح ضميره.. ومع ذلك يتوالي إلحاحهم وضغطهم بطريقة متعبة. ربما تجعل من يلحون عليه يهرب من لقائهم بكافة الطرق..

وربما يكون إلحاحهم في معرفة بعض أسراره أو أسرار غيره!

***

 

ومن صفات النفوس غير المريحة أيضاً: فرض الرأي:

 

وفي هذا ضغط علي الفكر. وضغط علي الإرادة وعلي التصرف ومحاولة من هؤلاء أن يسير غيرهم في تيارهم الفكري أو السلوكي. علي الرغم منه! مما يشكل ضغطا علي حريته الشخصية بشئ من السيطرة يتعذر عليه قبولها..

وقد يحدث فرض الرأي من أحد الأبوين أو من كليهما. في موضوع زواج ابنتهما بشخص لا تحبه أو لا تستريح للحياة معه عمرها كله! مما يتسبب عنه تعاسة أو فشل في حياتها الزوجية ومع ذلك يظل الضغط مستمراً. إما بمحاولة الإقناع والترغيب. أو بالانتهار والتوبيخ. علي اعتبار أن الابنة لا تعرف تماما ما هو الخير لها. أو أنها غير مطيعة وغير محترمة لحكمة أبيها وخبرة أمها. أو فرض الرأي عن طريق مرض الأب أو الأم. نتيجة لعدم موافقة الابنة علي المتقدم لخطبتها..!

هناك ألوان كثيرة من فرض الرأي في محيط الأسرة. وفي محيط العمل. والكل يتصف بحب السيطرة. وعدم احترام حرية أو فكر الطرف الآخر. وهي أمور متعبة.

***

 

ومن الصفات الأخري للنفوس غير المريحة : كثرة الجدل

 

هذا النوع من الناس. لا يمرّ عليه أي أمر من الأمور سهلاً. مهما كان بسيطاً! كل فكر وكل تصرف يتخذه موضوعاً للجدل. وربما يستغرق في ذلك وقتا طويلا. كما أنه يرهق أعصاب من يجادله. ويضيع وقته..

وقد يعلو صوته في الكلام. ويتكلم بسرعة وبعصبية. ولا يعطي لسامعه فرصة للرد. بقدر ما يقاطعه في أثناء الحديث. وهدفه كله أن يبدو منتصرا في المناقشة!

مثل هذا الشخص الذي تبدو مجادلته نابعة من نفس غير مريحة: لا يحاول أحد أن يفتح معه موضوعاً أو يبدي له رأيا. لأنه اذا فعل ذلك. لا يخلص أبدا من جداله ومن مناقشاته العقيمة. بل قد يلجأ معه إلي بعض العبارات التقفيلية التي يحاول بها أن يضع حدا للجدل. كما يلجأ أيضا الي الإجابات المختصرة التي تشعره بأن محدثه زاهد في استكمال الحديث..

***

نصيحتي لك : لا تتجادل مع كل شخص. بل مع الذي يجادل في حكمة. ويريد الوصول الي نتيجة. دون فرض رأيه..

 

أما الذي من طبيعته ألا يقبل الرأي الآخر. بل له فكره الذي يصر عليه مهما قدمت له من اقناعات. فهذا يكون من الخير لك وله أن تتجنب النقاش معه. لأن مثل هذا النقاش لن يجدي شيئاً. لأنه صادر من نفس متعبة. لا تحب إطلاقا أن تقتنع بغير ما عندها..

بل ربما أمثال هذه المجادلات تؤدي إلي خصومات.. كما تؤدي أيضاً إلي إضاعة الوقت. وقد يسأل الإنسان نفسه بعدها : أكان هذا الأمر البسيط يستحق كل هذا الوقت؟!

ونصيحتي لك أيضا ألاّ تجادل إلا في أمر هام أو أمر مستعص يستحق ذلك. كما ينبغي أن تلاحظ في أثناء المناقشة : هل الذي تناقشه يقبل الكلام أم لا يقبله؟ أم هومحب للجدل وتقضية الوقت؟!

وهل هو يريد مناقشة أمور ليست من اختصاصه. ولا هي في حدود معرفته؟ أو يريد مجرد التدخل في سياسات معينة لم يدرسها ولا يعرف تفاصيلها؟ ويكتفي بأن يقول إنه مجرد صاحب رأي!!

مثل هذا. ابتعد عنه. إنه من النفوس المتعبة.

***

 

ومن النفوس غير المريحة. من لا يقدّر ظروف الآخرين!

 

كأن يكلمك إنسان في وقت أنت مشغول فيه. فتعتذر إليه بضيق الوقت. وتؤجل الموضوع إلي وقت آخر. لكنه يصر إصرارا شديدا علي الحديث معك. بحجة أن الموضوع مهم جدا. ولا يقبل التأجيل!! ولا يبالي في كل ذلك بأهمية عملك ومشغولياتك - مما يجعلك تستمع إليه مضطراً. وأنت شاعر بضغطه عليك. بينما موضوعه لا يستحق ذلك كله!

***

 

وربما يأتيك شخص وأنت مريض. وصحتك لا تحتمل اللقاء

 

ولا الكلام ولا النقاش.. ويعرض عليك أموراً تحتاج الي فحص وتفكير. ويطلب منك ما لا تحتمله ظروفك الصحية. ويظل يكلمك وأنت علي فراش المرض. يلزمك جهد للإصغاء وللتفكير والكلام مما يؤذيك صحياً. ولكنه لا يبالي. إنما المهم عنده هو موضوعه الذي يعرضه. ويود أن يصل فيه إلي نتيجة! مع عدم تقديره لحالتك الصحية! إنه من النفوس المتعبة.

ومن أجل أمثال هذه الأمور. وحرصاً علي سلامة المرضي. فإن كثيراً من المستشفيات تحدد أوقاتاً تمنع فيها زيارة بعض المرضي. ولكن هذا الشخص يثور علي منعه من الزيارة. وقد يلحّ طالبا اعتباره حالة استثنائية!!

***

 

أو قد يطلبك أحدهم في التليفون. وربما تكون مشغولاً..

 

ولكنه لا يبالي بذلك. ويظل يتكلم ويتكلم مهما طال الوقت. ومهما حاولت أن تؤجل المكالمة أوتشرح له ظروفك! كل ذلك لا يهمه. ويستمر في حديثه. حتي لو شعر أنك لا تصغي اليه ولا تتجاوب معه!.. إنه بلا شك من النفوس المتعبة التي تجعلك تتخذ منها موقفا في المرات المقبلة.

يذكرنا هذا الأمر بالذين يزورون العائلات في مناسبات الامتحانات النهائية للتلاميذ

 

وعلي الرغم من أن كل دقيقة لها قيمتها في تلك الأوقات. إلا أن هؤلاء الضيوف. يفتحون موضوعات. ويظلون يتكلمون. بل ويرفعون أصواتهم. ويثيرون جواً من الضوضاء لا يساعد مطلقاً علي الاستذكار. غير واضعين في اعتبارهم مشاعر الطلاب وامتحاناتهم. ويعتبرون بذلك من النفوس المتعبة..

ويشبه هؤلاء أيضا من يقيمون احتفالات صاخبة تنقلها أصوات الميكروفونات بطريقة مزعجة لكل تلميذ وكل مريض.

***

 

ومن النفوس المتعبة : من يتصفون بالغضب والنرفزة والقسوة

 

الذين يتعاملون بالصوت العالي والصوت الحاد في لهجته. بدون أي سبب معقول. ومنهم الذين لا ينتقون الألفاظ المهذبة في أثناء غضبهم. فيصدر منهم ما يؤذي المشاعر ويجرح النفوس.. أمثال هؤلاء يتجنبهم الناس. لأنهم من النفوس المتعبة.

وكذلك القساة. سواء كانت قسوتهم في الألفاظ أو في الأحكام. أو في التعامل مع الأخطاء بطريقة تتعب المخطئين دون أن تقوّمهم. وبأسلوب يحطم نفسياتهم ويتسبب في هبوط معنوياتهم.

وقد يحدث هذا من بعض الآباء والأمهات في توبيخهم للأبناء. بأسلوب ربما يجعلهم يبحثون عن صدر حنون خارج البيت. وما قد يترتب علي ذلك من نتائج خطيرة.