المعرفة

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

21/10/2003

جريدة الجمهورية

 

 

الناس في معرفتهم. يعرفون بعض الاشياء عن بعض الأشياء. أما الله - تبارك اسمه - فإنه يعرف كل شئ عن كل شئ

لذلك فهو الوحيد الذي نقول عنه إنه "كليّ المعرفة".

وكمثال لذلك فهو يعرف الخفيات والظاهرات : يعرف ما في القلوب من مشاعر. وما في العقول من أفكار. كذلك يعرف نيات الناس. ما ينوون أن يفعلوه قبل أن يفعلوه..

الناس يعرفون طبائع الأشياء بالدراسة والخبرة. أما الله فإنه يعرف طبائع الأشياء. لأنه هو الذي منحها طبائعها حينما خلقها..

ومعرفة الله عن كل شئ هي معرفة مؤكدة. أما معرفة الإنسان عن الشئ قد تتغير وقد تتطور حسبما تكشفه الأيام والدراسات.

* * *

معرفة الله بدون وسائل. وبدون تدرج. وبدون اكتشاف

الطبيب مثلا قد يعرف المريض بكثير من الفحوصات. ومن الأشعات. ومن التحاليل. أو من السونار. أو من علامات وظواهر تبدو علي المريض. أو بطرق ووسائل أخري. وقد يبذل جهدا ووقتا إلي أن يصل إلي تشخيص سليم. أما الله فيعرف كل شئ للوقت. وبدون وسائل.

شركات البترول تقوم بكثير من الحفر. وإلي أعماق معينة. وبعد دراسات. حتي تعرف الأماكن التي يخزن فيها البترول. أما الله فلا يحتاج إلي اكتشافات لكي يعرف.. بل إنه يعرف تماما أين يوجد هذا البترول. لأنه هو الذي وضعه في تلك الأماكن..

نفس الكلام يمكن أن يقال عن مناجم الذهب أو الماس أو المنجنيز: الناس يبذلون الجهد لكي يصلوا إلي معرفتها. أما الله فيعرف أنه يوجد كل ذلك وغيره. لأنه هو الذي وضعه في أماكنه حين خلق الطبيعة.

* * *

الله يعرف المستقبل. ولا أحد يعرف المستقبل غيره..

ونقصد الأمور التي تحدث في المستقبل. ولا يمكن معرفتها عن طريق الدراسة أو الفراسة أو الاستنتاج.. فقد يقول الطبيب عن أحد المرضي أنه سيموت بعد أسبوع علي أكثر. ويحدث ذلك فعلا بسبب تتبع الطبيب لحالة المرض وتطوره وخطورته. وليست هذه معرفة بالمستقبل!

أو قد يقول مدرس عن أحد تلاميذه أنه لابد سيرسب في الامتحان.
كما يقول عن آخر أنه سينجح بامتياز. ويكون كلامه هذا عن معرفته بحالة كل من التلميذين ومستواه العلمي. ولا نقول عن هذا الأمر أنه معرفة بالمستقبل!

كذلك من يتنبأ بحالة الجو. عن دراسة. ويحدث ما يقوله. دون أن يعتبر كلامه نبوءة بالمعني الصحيح. إنما هو مجرد استنتاج أودراسة..

الله هو الوحيد الذي يعرف المستقبل. وقد يعلن شيئا من هذا المستقبل عن طريق أنبيائه. ولا صحة لما يقوله بعض المنجمين. أو قارئي الكف. أو قارئي الفنجان. أو ضاربي الرمل وموشوش الودع!!

* * *

الله - كما قلنا - هو كليّ المعرفة. وهو أيضا مانح المعرفة الحقيقية وهو يمنحنا من المعرفة. ما يفيدنا. وما يلزمنا..

وهو يمنحنا المعرفة عن طريق الوحي. وأيضا عن طريق الإعلان الإلهي أو الكشف الإلهي Revelation . ويكشف لنا

بعض المستقبل عن طريق النبوءة. وأحيانا عن طريق الرؤي الحقيقية. أو بعض الأحلام التي من عنده وتفسيرها. كما حدث مع يوسف الصديق..

والشيطان قد يتظاهر بأن عنده لونا من المعرفة. ويقدم بعضها عن طريق رؤي وأحلام كاذبة. أو بواسطة معاونيه من السحرة والمشعوذين.

ولكن كل المعرفة التي يقدمها الشيطان وأعوانه. هي معرفة مضللة وخادعة. والذي يسير في طريقها. يصاب بضرر شديد.. ويصبح العوبة في أيدي الشياطين. كما أن بعض معارفهم دنسة أو كاذبة.

* * *

والمعرفة علي أنواع : فهناك معرفة نافعة. ومعرفة ضارة. ومعرفة تافهة.. هناك معرفة عميقة. ومعرفة سطحية..
المعرفة التافهة والسطحية. هي حشو الذهن بمعلومات لا تنفعه بشئ. بل هي ضياع للوقت. وصدق ذلك الحكيم الذي قال : "من العجب أننا نرهق أنفسنا لمعرفة أمور كثيرة. لسنا نُدان في اليوم الأخير علي جهلنا إياها!". ولعل من أنواع المعرفة التافهة. سعي البعض وراء معرفة أخبار الناس. وتداول الاحاديث في أمور لا تنفع بشئ.. أو التعليق علي أمور علمية من غير المتخصصين.. في كل هذه يكون الصمت أفضل من الكلام.

* * *

أما المعرفة النافعة. فإنها لازمة. وهي علي أنواع:

منها معرفة الذات. كما قال الحكيم : اعرف نفسك.

ومنها المعرفة الدينية. مثل معرفة الله ووصاياه وقواعد الإيمان.

أيضا المعرفة الثقافية. وتشمل كل ألوان المعرفة التي توسع مدارك الإنسان. بكل المعلومات النافعة لحياته. والمرشدة له

في علاقاته الاجتماعية. كما أنها تنمي فهمه وتدرب ذكاءه.

ولا يوجد أحد يستغني عن المعرفة التي تسمي أيضا بالعلم. والمعرفة نور يضئ الطريق. أما الجاهل فيسلك في الظلمة.

* * *

ولنبدأ حاليا بعبارة "اعرف نفسك":

اعرف أنك مخلوق من تراب الأرض. فلا تتصرف في عجرفة وفي خيلاء. ولا تمش في الأرض مرحا. ولا تتعال علي غيرك..

إعرف أيضا انك من روح وجسد. فالجسد له ضعفاته وغرائزه. فاحترس منها. والروح لها سموها. فاعطها مجالها.

ولا تحبسها في سجن الجسد. بلا اعطها غذاءها الروحي الذي تحتاج إليه.

إعرف طباعك. وما يمكن أن يبقي منها. وما يجب أن يتغير اعرف نقائصك وأخطاءك. لكيما تصلح نفسك.

وتتحول في كل شئ إلي أفضل. لأنك لو عشت تائها عن ذاتك. ستبقي حيث أنت. بلا تغيير. بنفس العيوب التي

يلاحظها الناس فيك..!

اعرف إلي أي شئ تنجذب نفسك. وبأي الأسباب تسقط أحيانا. لكيما تحترس ولا تعاود السقوط مرة أخري.

اعرف مواهبك لكي تتعهدها بالحفظ. وتنميها. وتجعلها لخيرك ولخير الآخرين.

* * *

علي أنه من أهم ما يجب أن تعرفه. هو أن تعرف الله معرفة حقيقية ليست من مجرد قراءة الكتب أو سماع العظات.

تعرف جلال الله. لكي تخشع أمامه في كل حين وتهابه. وتعرف قداسة الله وصلاحه. حتي لا تجرؤ أن تخطئ قدامه حيث يراك.

وتعرف عناية الله بك بتذكرك لأحداث كثيرة مرّت بحياتك. وكانت واضحة فيها يد الله وهي تسندك وتعمل معك. وبهذا تشكر الله من أعماقك وتقول "سبحي يا نفسي الرب. ولا تنسي كل احساناته". تذكر كل ضيقة

مرت بك. وأنقذك الله منها..

إعرف الله السخي في عطائه. الذي يعطي الكل حتي غير المستحقين. الذي يعطي دون أن نطلب. ويعطي فوق ما نطلب. ويشبع الكل من رضاه..

اعرف الله الديان العادل. الذي ستقف أمامه في اليوم الأخير. لكي تقدم حسابا عن كل ما عملته وما نويت أن تعمله. كما تقدم حسابا له عن كل أفكارك وكل مشاعرك. فإنك إن عرفت هذا جيدا وتذكرته. سوف تكون بالضرورة محترسا قلبا وعقلا وعملا.

* * *

صلّ في كل يوم. وقل له : عّرفني يارب طرقك. فهمني سبلك.

ارشدني إلي العمل بوصاياك. أنر طريقك قدامي لكي لا أضل عنك.. اكشف عن عيني. لأري سموا في وصاياك. ومتعة في الحياة معك..

وكما تعطيني علم معرفتك. اعطني أيضا محبة الخير. واعطني الإرادة والقوة. لكي اسلك كما ينبغي. ولا أضعف أمام المقاومات..

وابعد عني انواع المعرفة التي تبعدني عنك. ذلك لأن فلاسفة كثيرين كانوا ذوي فكر. ولكنهم ضلوا عن معرفة الله. بل أنكروا وجوده!!

كذلك ابعد عني المعرفة التي تنفخ. التي تصيب صاحبها بالكبرياء والخيلاء. فيتخيل أنه يعرف أكثر من غيره. ويتباهي بالمعرفة. ويظن أنه أكثر معرفة من غيره. وينظر في استصغار إلي غير العارفين..!

* * *

إن مصادر المعرفة كثيرة جدا. وبخاصة في أيامنا التي اشتهرت بثورة المعلومات. ومنها الانترنت. والكومبيوتر. وبنوك المعلومات..

بالإضافة الي وسائل الاعلام المتعددة من الإذاعة وقنوات التليفزيون الكثيرة. وانتشار الطباعة والمطبوعات: من كتب وجرائد ومجلات ونبذات. والعديد من دوائر المعارف: بعضها عامة. وبعضها في تخصصات معينة.. وكل علم من العلوم. وكل فن من الفنون. نشرت عنه مؤلفات وكتب. بالإضافة الي البحوث التي تقوم بها الجامعات وكافة الهيئات العلمية.

مادة المعرفة إذن موجودة بوفرة شديدة في كل فروعها. ولا عائق أمام طالب المعرفة. إذ يجد كل شئ معروضا أمامه. وأحيانا بالصوت والصورة. وما عليه إلا أن ينتقي من كل ذلك ما يشاء..
ودور العلم مفتوحة لمن يريد لونا خاصا من المعرفة. يدرسه أو يحصل فيه علي درجة علمية. أو يقدم بحثا فيه الجديد من المعرفة..

وقد انتشرت المعرفة أيضا بحركات واسعة من الترجمات الي عديد من اللغات. لكي تصل سهلة مفهومة الي بلدان اخري تتكلم بلسان آخر غير الذي وضعت به المؤلفات في أصلها.

* * *

والقراءة وسيلة هامة في الحصول علي المعرفة...

وقديما كانت القراءة محصورة في المخطوطات وهي قليلة وغير متوافرة. أما الآن فإن الطباعة قد فتحت المجال واسعا أمام القراء. وأصبحت المكتبات عامرة بكل أنواع الكتب. وصارت القراءة ميسرة. وبالقراءة يمكن أن يتثقف كل من يقرأ. ويزداد معرفة..

إذن الأمر الآن ليس هو مجرد المعرفة. إنما النمو في المعرفة أيضا. وعن طريق ال CD يمكن أن يحصل الإنسان علي أكثر من مائة من المقالات مسجلة أو أكثر. في كل واحدة منها.

ان العالم الآن يسهل طريقة الحصول علي المعرفة. علي كل فرد يريد. في أي لون من المعرفة يشاء..

* * *

هناك وسائل أخري للمعرفة. وهي المشورة. والخبرة..

بالمشورة يمكن الحصول علي المعرفة من الآخرين. سواء من الذين اتصفوا بالعلم عن طريق دراساتهم وانتاجهم الفكري. أو من الشيوخ الذين بعامل السن قد خبروا الحياة. وعرفوا حلوها ومرّها. ويمكنهم أن ينقلوا خبرتهم العملية الي غيرهم. وسعيد هو من يسأل ويستشير. فيستفيد من خبرة غيره ومعرفته.

علي أن الإنسان يمكنه - بخبرته الشخصية - أن يكتسب لونا من المعرفة لم يكن له من قبل. وكلما ازداد في الخبرة. ازداد معرفة..

وغالبا ما تكون الخبرة العملية أكثر عمقا وتأثيرا من المعرفة النظرية. ومن هنا كان المثل السائر "اسأل مجربا. ولا تسأل طبيبا"..

* * *

والمعرفة شرط لازم للذين يتولون القيادة

سواء كان ذلك في محيط الأسرة من حيث تربية الأبناء ومعرفة أساليب التربية لكل مرحلة من مراحل العمر. أو من حيث القائمين بمهمة التعليم في المدارس. أو المشرفين الاجتماعيين في مراكز الشباب.
أو المعرفة اللازمة لكل من يتولي منصبا اداريا أو قياديا في أية مؤسسة اجتماعية أو ادارة حكومية أو عمل خاص.
بالمعرفة ينال المدير احترام مرؤوسيه. وبالمعرفة يمكن أن يؤدي واجبه في العمل اداء حسنا بكل توفيق.

* * *

يبقي هناك لون من المعرفة سيتم في العالم الآخر

هو طبيعة الحياة في الأبدية. ثم التعارف بين كل الذين سوف يعيشون معا في ذلك العالم الجديد علينا..
يخيل إليّ ملاكا سيتولي تعريف الأرواح بكل من هناك: يعرفهم بالملائكة ورؤساء الملائكة. وبالانبياء والرسل والرعاة. كل واحد من هؤلاء باسمه. وما قد أهله للدخول في عالم الأحياء كما يعرفهم أيضاً بأسماء الشهداء والشهيدات. وأسماء الأبرار جميعا. وحياة كل واحد منهم علي الأرض.

تري كم من الزمن يحتاجه حفل التعارف هذه؟!