إكرام الوالدين ومن يماثلهما

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

27/1/2004

جريدة الجمهورية

 

 

إنها وصية إلهية أن يكرم الإنسان والديه اللذين أنجباه بالجسد. وأن يحترمهما ويطيعهما ويحسن إليهما.

ثم اتسع مفهوم الوصية حتي شمل الأقارب بالجسد الذين هم في منزلة الأب والأم. كالعم والعمة والخال والخالة.. ثم اتسعت الوصية أيضاً حتي شملت كبار السن. الذين هم من جهة عمرهم في منزلة الأب والأم.
وازدادت الوصية في اتساعها حتي شملت الأبوة الروحية كالمرشدين والمعلمين. كما شملت أبوة المركز. ومن عليهم واجب الرعاية.

بل يزداد المفهوم حتي يصل إلي احترام النظام العام والقانون والدولة.

***


ونود أن نبدأ الحديث بالأبوة الطبيعية. ونتدرج منها إلي الباقي..

إن الأب هو رئيس الأسرة كلها. ليس للأولاد فقط. إنما لأمهم أيضاً. لأن الرجل رأس المرأة.

وفي النظام القبلي قديماً. كان الأب هو حاكم الأسرة. وكان الأب الكبير أي الجد هو حاكم العشيرة وهو قاضيها أيضا.

فكان يجمع بين الرئاسة الجسدية الطبيعية. والرئاسة المدنية في نفس الوقت.

وكانت بركة الوالدين ولا تزال شيئاً عظيماً يسعي إليه الابن لكي يناله بكافة الطرق. ومن يباركه والداه. يباركه الله.. أو

علي الأقل يسعي كل شخص إلي اكتساب رضاء والديه عليه. وقد يري أن عدم حصوله علي هذا الرضاء يكون سبباً

لفشله في الحياة.

***

ومن مظاهر إكرام الوالدين أمور عديدة. نذكر منها:

العرفان بالجميل

لابد لكل ابن أن يعترف بجميل أبويه عليه. ولاسيما أمه

في فترة طفولته. بل قبل أن يُولد. ويكفي أن يقرأ أي كتاب طبي أو نفسي عن حالة الأم وقت الحمل. وما تحتمله من

تعب. ثم الاهتمام بالطفل أثناء فترة الرضاعة. وعنايتها به من جهة طعامه وبكائه ونظافته. وحمله علي حجرها وعلي صدرها وعلي كتفها. ولا شك أن الطفل الرضيع يمكن أن يتسبب أحياناً في حرمان أمه من أن تذوق طعم النوم.

كما أن الأم لو قصرت في العناية بابنها في مواعيد التطعيم مثلاً لأصابته أضرار وأخطار تبقي معه طوال عمره.

إن جميل الأم لا يمكن أن ينساه إنسان. ولكن قد يقول أحدهم:
"
إن أمي تعبت في تربيتي وأنا صغير. ولكني أقاسي من بعض تصرفاتها الآن!".. حتي لو صحّ هذا فرضاً وقد لا يكون هذا صحيحاً فإنه لا يجعلك تنسي جميلها عليك.. هي احتملتك وأنت صغير. وأنت تحتملها حين تكبر. وقد يكون سبب عدم تحملك. هو تمردك علي تربيتها لك في كبرك!

***


ويجب ألا ينسي الإنسان أيضاً جميل أبيه عليه..
هذا الذي تعب وكافح من أجل تربيته. وقام بجميع مصروفاته. وأنفق عليه من عرقه ومن دمه. وكان السبب في تعليمه وتنشئته.
ولا يكون العرفان بالجميل قاصراً علي تعب الوالد مادياً لأجل ابنه. وإنما العرفان بالجميل يشمل أيضاً ما أغدقه الأب من حب وحنان وعاطفة مع نصائحه وسعيه في أن يبعده عن كافة سبل الضلال.
ولكي ندرك أهمية هذه العواطف. يكفي أن نتأمل كيف أن كثيراً من الذين حُرموا من حنان الأبوة وحنان الأمومة. قد وقعوا في أزمات نفسية خطيرة ومشاكل صعبة.
ما أقسي علي النفس أن يتعب الأب والأم من أجل ابنهما دهراً. حتي إذا شبّ وكبر. ينسي لهما كل تعبهما السابق.
شيء آخر يمكن به إكرام الوالدين. هو النجاح.

***

النجاح
إن النجاح في الحياة هو عنصر هام في إكرام الوالدين
. لأنه بلا شك يشرفهما. ويكون موضع فخرهما. ويسعد قلبيهما. ويشعرهما بأن تعبهما قد أتي بنتيجة تريح ضمير كل منهما..فإذا ذاكرت يا ابني دروسك جيداً. ونجحت وتفوقت.. وإذا كنت أميناً في عملك. ونلت ثقة ومحبة رؤسائك.. إذا كنت ناجحاً في الحياة العملية. وسمعتك طيبة. واسمك حلواً في أفواه الناس.. فإنك بهذا كله تكرم أباك وأمك. لأنهما يبتهجان ويفتخران بنجاحك.
أما إن كنت فاشلاً في حياتك. فإن أباك لا يعرف أن يخفي وجهه. وكذلك أمك تخجل بسبب فشلك. وإن أتت سيرتك في حضورهما أمام الناس. ينكس كل منهما وجهه حزناً وعاراً. صدق سليمان الحكيم حينما قال: "الابن الجاهل غمّ لأبيه. ومرارة للتي ولدته".
ما أكثر قصص التاريخ والواقع. عن فرح الآباء والأمهات بنجاح أبنائهم. وعلي عكس ذلك كانت مشاعر الوالدين تجاه الأبناء الفاشلين.

***

نقطة هامة أخري في إكرام الوالدين. وهي المحبة والاحترام.
المحبة والاحترام
أول محبة يمارسها الإنسان هي محبته لأمه
. ثم محبته لأبيه. وهي محبة طبيعية لا يبذل مجهوداً في اقتنائها. ولا يحتاج إلي مجهود في المحافظة عليها. وهي أيضاً محبة متبادلة. وأي انحراف عنها. هو شذوذ غير طبيعي!
هذه المحبة لها عنصران: أحدهما إيجابي والآخر سلبي.
أما العنصر الإيجابي: فهو عاطفة الحب التي يظهرها الابن نحو أبيه وأمه. وبذل كل ما يستطيع من جهد في إراحتهما وإرضائهما وكسب بركتهما ورضاهما. ويستمر هذا الحب وهذا الإرضاء طوال الحياة. وحتي بعد انتقالهما إلي العالم الآخر. يقيم الصلوات والذكري لأجلهما. وينفذ وصيتهما علي قدر طاقته.
وأما العنصر السلبي: فهو أن الابن لا يصح أن يغضب أحداً من والديه أو يثيره. أو يعامله ببغضة أو بقسوة. أو يتجاهل رأيه. ولا يصح للابن أن يرهق والديه بكثرة الطلبات. وبخاصة ما هو فوق قدرتهما. كما لا يصح أن يبدد ما لهما بعيش مسرف. ولا أن يضيع سمعة الأسرة بسلوكه في الفساد. وأكثر عقوق يصل إليه الابن. هو أن يتمني الشر أو الموت لأحد والديه..!

***

من أكثر الأمور شراً. أن يستخف الابن بأبيه أو أمه.
أو أن يعاملهما علي نفس المستوي. كأنه وهما في درجة واحدة!!
أي أن الكلمة تُرد بكلمة. والمناقشة تقابلها مناقشة. أو ما يُسمي بالعامية "مقاوحة"! والغضب يقابل بغضب. والصوت العالي يُردّ عليه بصوت عال. كأن لا فارق..! هذا الأمر يحدث بين اثنين متساويين. وعلي مستوي غير روحي.. وقطعاً هذا لا يليق.
فينبغي علي الابن أن يدرك أنه دائماً في الدرجة الأقل.
لأن من حق أبيه أن ينتهره. ومن واجب الابن أنه لا يرد علي هذا الانتهار. بل يسمع ويسكت أو يعتذر ويتأسف. وإن رفع أبوه صوته. أو رفعت الأم صوتها. فليس من الأدب أن يرفع الابن صوته في مستوي صوت أبيه وأمه. فليس هذا هو أدب الحديث مع الأب أو الأم. وليس من الاحترام أن يُعامل أحد منهما بنفس المعاملة.

***


ومن علامات احترام الوالدين. خدمتهما في كل ما يحتاجان إليه:
ولست أقصد بالخدمة مجرد أن يطيع الابن ما يطلبه منه والداه في أي أمر. طبعاً هذا واجب. ولكنني أقصد أكثر من هذا.. أن الابن الحكيم ينظر من تلقاء نفسه ما هو احتياج أبيه. وما هو احتياج أمه. ويخدمهما دون أن يطلبا ذلك منه.
مثال ذلك: وجدت والدك واقفاً ومتعباً. لا تنتظر أن يطلب منك احضار كرسي ليجلس. بل اذهب من تلقاء نفسك واحضره له. وقل له: تفضّل يا أبي واجلس.
كنت جالساً مثلاً إلي المائدة. ووجدت صنفاً ينقص أباك. احضره له وضعه أمامه. وجدت كوب الماء الذي أمامه فارغاً. املأه له.
وجدت أمك مثلاً متعبة في العمل. تقدم وساعدها دون أن تطلب منك. لا تجلس إلي المائدة. منتظراً حتي تضع والدتك الطعام أمامك.
وإنما اذهب واحضره معها. وفي نهاية الأكل. ارفع معها بقايا الطعام وساعدها.
اخدم أباك وأمك واحترمهما. وثق أنك بذلك ترتفع درجة في نظرهما. وفي نظر الكل. وأمام الله نفسه.

***


وما أكثر الأمثلة التي يقدمها لنا التاريخ في ذلك:
إن يوسف الصديق. وهو نائب فرعون في حكم مصر كلها. وخاتم فرعون في يده. وكل السلطة أيضا في يده.. مع كل هذه العظمة التي أحاطت به. لم يستنكف من أبيه راعي الغنم.. بل شدّ يوسف مركبته وصعد لاستقبال أبيه. وقدّمه لفرعون كراعي غنم.. إنه درس يقدمه يوسف الصديق لكل ابن يرتفع مركزه. فيستحي من بساطة أبيه.
يجب علي الابن أن يحترم أباه. ويوقره. ولا يستخف به. ولا يستهين برأيه. ولا يظن أنه "دقّة قديمة". وأنه من جيل مضت أيامه ليفسح الطريق للجيل الجديد الصاعد. الجيل الذي يتقن الكمبيوتر الذي لا يعرفه أبوه!

***

أيضا من عناصر إكرام الوالدين: الطاعة والخضوع
الطاعة والخضوع
إن الطاعة عنصر جوهري في إكرام الوالدين
. ومن المفروض أن يطيعهما طاعة قلبية عن حب ورغبة في إرضائهما. وطاعة حقيقية ليست ظاهرية. وطاعة عن رضي بغير تذمر. وطاعة سريعة بغير تلكؤ. طاعة في غيبتهما وفي حضورهما. وأيضاً طاعة داخل وصية الله.
ولا تكون طاعة شكلية. فإن رفضا له طلباً. يظل يضغط ويلح. ويستمر في الضغط والإلحاح. وقد يتضايق ويحزن. حتي يسمع أخيراً كلمة الموافقة. فليلتقطها بسرعة قبل أن يسحباها. ويسمح لنفسه أن يقول "أنا طوال عمري لم أخالف والديّ. لم أفعل شيئاً بدون موافقتهما"! وهو يعلم أن الموافقة لم تكن من قلبيهما بل نتيجة ضغطه!
يحكي عن أحد الشبان أن أتي إليه أصحابه يدعونه للذهاب معهم إلي مكان ما. فاعتذر قائلاً "لا أستطيع لأن والدي أمرني بعدم الذهاب إلي هناك". فقالوا له "لا تخف. تعال معنا. وأبوك سوف لا يعلم". فأجابهم "نعم. يمكن أن أذهب دون أن يعلم أبي. ولكنني إن فعلت هذا. فإنني عندما أرجع لا أستطيع أن أرفع عينيّ في وجه أبي. بل سيملكني شعور بالخجل منه. لأني خالفت كلامه".

***

نقطة أخري في إكرام الوالدين. وهي الإعالة
الإعالة
يجب أن يهتم الإنسان بوالديه
. فيعولهما ويهتم بهما. ولا سيما في فترة الشيخوخة أو الضعف أو المرض أو العجز.
فكما اهتم بك والداك في صغرك. يجب أن تهتم بهما حينما يكبران ويصبحان ولا قوة لهما ولا قدرة!
أقول هذا بمناسبة إنشاء كثير من بيوت المسنين للآباء والأمهات
حيث كبر الأولاد
. فمنهم من أكمل تعليمه. وحصل علي وظيفة في بلد بعيد. ومنهم من تزوج. وأصبحت حياة أحد والديه معه في بيت الزوجية تشكل ثقلاً علي زوجته لا تقبله. ومنهم من هاجر إلي الخارج.
وبقي الوالدان وحدهما. ثم توفي أحدهما. وأصبح الآخر بلا عائل.. وشكراً لبيوت المسنين التي ضمت أمثال هؤلاء.