كيف يكون العطاء

بقلم قداسة البابا شنوده الثالث

30/3/2004

جريدة الجمهورية

 

 

 

الأمر الأول هو أن تعطي دون أن يُطلب ذلك منك

فلا تنتظر حتي يسعي الناس إليك. عارضين احتياجهم ومقدمين طلباتهم. انما ينبغي أن تكون لك الحساسية والشفافية. التي تدرك بها احتياجات الناس. فتقدمهم لهم من ذاتك. دون أن يطلبوا.

فهكذا يفعل الأب في الأسرة من جهة أولاده: يدرك من تلقاء نفسه ما يحتاجون اليه من ملابس ومن طعام ومن مصروفات. فيقدمها لهم من غير ان يطلبوا. وهكذا يفعل معنا الله - تبارك اسمه - في اعطائنا احتياجاتنا. وبنفس الوضع يمنح الناس المواهب المتعددة دون ان يطلبوها.

ان كان الأمر هكذا. فكم يكون الحال ان كان المحتاج يستغيث ويطلب؟! يقول سليمان الحكيم: لا تمنع الخير عن أهله. حين يكون في طاقة يدك ان تفعله.

***

والانسان الروحي يعطي وهو مسرور. لان "المعطي السرور يحبه الرب"

ويعطي في حب: بمحبة للعطاء. ومحبة لمن يعطيه. ولانه هو نفسه يشعر بسعادة حينما يعطي. كالأم التي تعطي ابنها حنانا وهي ترضعه. وتشعر هي بفرح وهي تحتضنه وترضعه. أكثر مما يشعر هو بذلك.

قال أحد الأدباء الروحيين: "سقيت شجيرة كوب ماء. فلم تقدم لي عبارة شكر واحدة. ولكنها انتعشتْ. فانتعشتُ".

ان الذي يحب الناس يشعر بسعادة حينما يسعدهم. وحينما يفرحون بعطائه. يكون هو في حالة من الفرح أكبر منهم. مثال ذلك الأب الذي يعطي من وقته ومن ماله ومن جهده في تربية أولاده وتنشئتهم. فان نجحوا في الحياة. يفرح بنجاحهم أكثر من فرحهم هم. ويفرح بثمرة عطائه.

***

كذلك انت. افرح حينما تعطي. ولا تتذمر إذا كثر من يطالبونك باعطائهم

أو إذا شخص واحد كثرت طلباته مرات عديدة.. فلا يليق مطلقاً بمن يعطي. ان يضجر ويتضايق كمن هو مرغم علي الاعطاء. مثال الذي يعطي لبعض الهيئات التي تلح وتضغط في جمع تبرعات! فيشعر من يعطيهم انهم يرهقونه بطلب التبرع. فيعطيهم وهو ساخط. ولا يحسب له الله اجراً علي العطاء بالسخط!

مثل هذا الشخص يعطي من جيبه. وليس من قلبه!

أما الانسان الروحي: فان أعطي انساناً. يشعر بالفرح. إذ قد أُتيحت له فرصة ان يفك ضيقة أحد الأشخاص. ويفرح قلبه. ويكسب دعاءه.. وفرح المعطي يدل علي انه قد دفع لغيره براحة ضمير وبرضا قلب.

ومن دلائل الفرح والرضي بالعطاء. ان الانسان لا يتردد فيه ولا يؤجله. قال سليمان الحكيم في ذلك: "لا تقل لصاحبك اذهب وتعال غداً فأعطيك. وموجود عندك...".

***

ومن الصفات الجميلة في العطاء: الكرم والسخاء:

لا تعطِ وأنت تحاسب الله والناس علي ما تعطيه!! ان الله يعطينا مثالا طيبا في عطائه. فهو يفتح لنا كوي السماء ويغدق علينا. حتي نقول: كفانا كفانا.. يُنزل لنا المطر من فوق. ويمنحنا البترول والغاز من باطن الأرض. كما يخزن لنا في الجبال أحجارا كريمة ننقب عليها ونأخذها.

فان طلب منك أحد شيئاً. لا تدقق كثيراً في مقدار ما تعطيه. بل يكون من الأفضل ومن الأعمق تأثيراً. أن تعطيه أكثر مما يطلب.

وكما يعطي الانسان بسخاء في الماديات. يعطي أيضاً بسخاء في المعنويات. وفي المشاعر والعواطف والأمور الروحية.

كانسان يعطي حباً للآخرين أو عطفاً عليهم. تراه يعطي حباً بلا حدود.

وعطفاً بلا قيود. ويقدم مشاعره في سخاء بقلب كبير مفتوح للكل.. وإن كان في عطائه خدوماً للناس. إنما يخدمهم بكل قوة وتفان. بروح الخدمة المملوءة حباً وعطاءً وسخاءً..

***

ومن سمو العطاء أيضاً : العطاء في الخفاء

ذلك لأن العطاء العلني. قد ينال عنه الانسان مديحاً من الناس. ويكون بذلك قد أخذ أجره علي الأرض.. أما الذي يعطي في الخفاء. فإنه ينال أجره في السماء. من عند الله الذي يري الخفيات..

ويُخشي أن يكون عطاؤك أمام الناس هدفه الفخر. وليس محبتك لمن تعطيهم. وهنا محبة الذات تشوّه جمال العطاء. ومعروف أن العطاء يفقد قيمته اذا خلا من محبة الله ومحبة المحتاجين.

المفروض أم العطاء يكون نابعاً من القلب. من محبة من تعطيهم. ثم تتحول هذه المحبة الي عطاء. سواء رآه الناس أن لم يروا. أما العطاء الخالي من الحب. فهو غير مقبول من الله. وهو أيضاً غير مقبول قلبياً من الناس.. لذلك فالعطاء في الخفاء. يدل علي محبة العطاء ومحبة الناس.

***

والعطاء في الخفاء. لايقصد به فقط الخفاء علي الناس. إنما بقدر الإمكان يكون في خفاء عن نفسك أيضاً. إن استطعت..

فلا تعِط. وتظل تحصى كم أعطيت .. ولا تجلس إلى نفسك وتتذكر كم أعطيت. ولا تذكر ذلك في حديثك مع الناس ولا مع الذين أعطيتهم. والنبل الحقيقي هو أن تنسى ما قد أعطيته، حتى لا يحاربك به الشيطان الخيلاء والفخر، وحتى لا تستوفي بذلك خيراتك على الأرض، وذلك عن طريق تمجيد ذاتك لك.

يحكى أن امرأه غنية جداً "في القرن الرابع" كانت تحب الإحسان الي المحتاجين.. أنها في احدي المرات وضعت في كيس خمسمائة قطعة من الذهب. وسلّمَته الي أحد الآباء القديسين ليوزعها علي الفقراء. فما كان من ذلك الأب. إلا انه سلّم الكيس لتلميذه كما هو وأمره أن يوزعه علي المحتاجين..

وهنا قالت له تلك المحسنة الغنية "ولكنك لم تفتحه ياأبي لكي تعرف كم فيه!".. فردّ عليها ذلك القديس قائلاً "إن كنت يا ابنتي قد قدّمت هذا المال للّه. فالله يعرف مقداره كم هو". وكان ذلك درساً لها.

***

ومن العطاء الروحي المقبول أن تعطي القلب للّه

وذلك عملاً بالوصية التي تقول "ياابني اعطني قلبك" والوصية التي تقول "تحب الرب إلهك من كل قلبك"...

وإن اعطي الانسان قلبه للّه. يكون قد أعطي كل شيء..

وعندما تعطي الله قلبك. إنما تعطيه كل حبك. وكل اشتياقاتك. وكل مشاعرك. فتحنَّ إليه والي الوجود معه. وبهذا العطاء تعرف معني الصلاة ومذاقها واختبارها. وإن اعطيت الله قلبك. ستنفذ وصاياه. لا عن اضطرار. إنما عن حب. لأن من يحب الله. يحفظ وصاياه.

كذلك إن أعطيت قلبك وحبك للناس. ستعمل كل ما تستطيع من أجلهم. وتكون مستعداً أن تعطيهم كل شيء...

***

ومن سمو العطاء. أن تعطي من أفضل ما عندك

وقد تزداد محبة العطاء عندك. فتعطي من أعوازك

في إعطائك افضل ما عندك احترام لمن تعطيه. ومحبة له. لأنه لايليق ابداً احتقار المحتاجين. فهو بشر مثلنا غير أن الظروف التي مرت بهم أحوجتهم. كما أن إعطاءهم افضل ما عندنا دليل ايضا علي زهدنا فيه.

كذلك هو لون من النبل أن تعطي من أعوازك. أي أن تعطي شيئاً وأنت في مسيس الحاجة اليه. هنا تظهر أنك في محبتك لغيرك. تفضله علي نفسك. وثق في كل ذلك أن ما تعطيه للغير هو مخزون لك في السماء. أنت لم تفقده. لكنه مكنوز لك...

***

عندما درّب الله الناس علي العطاء في العهد القديم. أعطاهم وصيته العشور ووصيته البكور..

فكان كل شخص يقدّم عشر كل ما يصل إليه من ايراد. فلا يأخذ الكل لنفسه.. وليس المقصود بالعشور أن تكون كل ما يعطيه. انما تكون هي الحد الأدبي للعطاء. فلا يقل عطاؤه عن العشور. انما قد يزيد..

والمفروض أن تكون العشور من كل الايراد. وليس مما تبقي منه بعد خصم مصروفات أساسية. فربما لا يتبقي شيء أو قد يتبقي الضئيل. فإن دفع عشوره. يكون قد دفع القشور وليس العشور!!

والذي يدفع العشور. لا يجوز أن يستريح ضميره من هذا الحد. ويظن أن واجبه في العطاء قد استوفي حقه! ثم يغلق قلبه أمام طلبات المحتاجين.

كلا. فلا يصح التعامل في العطاء بعلم الحساب. بل بمشاعر القلب. وكلما تعرض أمامنا بمناسبة لعمل الرحمة. علينا أن نعطي مهما كنا قد أعطينا قبلاً.. إن اعطاءنا للمحتاجين. ليس هو مجرد إحسان. انما هو حق لهم علينا.

***

 

أما وصية البكور. فهي تختلف في القديم عن ظروفنا الحاضرة

في أيام موسي النبي. كان الناس يقدمون أبكار غنمهم وبهائمهم. أي أول ما تلده أغنامهم. وكذلك بكور ثمار الحقل أي أول ما تطرحه الشجرة أما الآن فلا يعيش كل الناس في مجتمع زراعي. فماذا تكون البكور اذن؟

يمكن أن يقدم الموظف لله أول مرتب يتقاضاه. وأول علاوة.. ويمكن أن يقدم الطبيب ما يصل إليه من أول كشف أو أول عملية جراحية.. وهكذا المحامي يقدم أول ما يكسبه من مرافعته في قضية. وبالمثل مع باقي أصحاب الحرف.

يضاف إلي العشور والبكور: النذور.

***

علي أن السيد المسيح فتح باب العطاء علي مصراعيه وقال:

"من سألك فأعطه. ومن طلب منك فلا ترده".

وقال لشاب غني "كان محباً للمال": "إن أردت أن تكون كاملاً. اذهب وبع كل مالك. واعطه للفقراء. وتعال اتبعني".

وخلاصة الوصية. أنك لا تحب مالك أكثر مما تحب الفقراء.

وطبعاً أن يعطي الإنسان أفضل ما عنده. أو يعطي من أعوازه. كل ذلك أقل من أن يعطي كل ما يملك.. علي الأقل يكون الانسان في قلبه مستعداً أن يعطي كل ما يملك من أجل غيره أو من أجل الصالح العام. هنا التضحية في عمقها. والعطاء في قممه أو في كماله..إن كل ما يملكه الإنسان لابد سيتركه علي الرغم منه ساعة موته. أما ما يتركه للغير في حياته. وبكامل ارادته. هذا سينال أجره في الأرض وفي السماء ولنثق أنه بحسب كرمنا. سوف يعاملنا الله. فكما نعطي. وكما نكون مستعدين أن نعطي. سوف يعطينا الله اضعافاً. بكرمه الإلهي.

***

ومن سمات العطاء: ان يكون باتضاع. بغير افتخار..

ان الانسان المتضع مهما أعطي يعتبر أن ما أعطاه هو لا شيء إذا ما قيس بالدرجات العليا في العطاء. ويعرف تماماً أنه لم يعط من عنده شيئا. فهو قد أخذ من الله ما يعطيه لخليقة الله. فالله هو الوحيد المعطي. وما الإنسان في عطائه إلا مجرد موصل لأموال الله التي ائتمنه عليها.

كذلك فالانسان المتضع في كل ما يعطيه يشعر أنه لا يعطي بل أنه يأخذ بركة من الله. ودعاء من الناس.. ويشكر الله الذي أعطاه ما يعطيه..

حقاً. ان البركة التي تأتي من العطاء. هي أكثر مما نعطيه.

***

شيء هام يحارب العطاء. وهو موضوع: المستحق وغير المستحق

كثيرون يحققون بدقة شديدة مع من يطلب منهم عطاءً لكي يتأكدوا من أنه مستحق. وهكذا يكون الواحد منهم في موقف القاضي وليس العابد.

والواقع أنه في الظروف الاقتصادية الصعبة. يكون كل الناس محتاجين. فالذي تشك في احتياجه. اعطه ولو شيئاً قليلاً. ولا ترجعه فارغاً. ولا تذله بتحقيقاتك وتريق ماء وجهه. ولا تجرح مشاعره بطرده أو برفضه.

علي أن الإنسان المتضع. يقول في نفسه: أنا أيضاً امام الله غير مستحق. ومع ذلك فإن الله يعطيني.. ان الله مازال يعطي هذا العالم الذي انحلت فيه الاخلاق. وكثر فيه الإلحاد والتجديف واللا مبالاة!! وكلهم غير مستحقين.

***

أخيراً نقول ان أعلي درجة في العطاء. أن يعطي الإنسان ذاته..

لأنه ليس حب أعظم من هذا: أن يعطي أحد نفسه عن أحبائه. هنا تكون التضحية بالذات. وفداء الانسان لغيره كالجندي الذي يفدي وطنه بحياته.

ومثال ذلك أيضاً الشمعة التي تذوب. لكي تقدم نوراً لغيرها. وكذلك حبة البخور التي تحترق وتقدم ذاتها حتي تتحول إلي رماد لكي تعطي رائحة زكية للآخرين. والوردة التي تعطي من عطرها لمن يقطفها وحتي لمن يفركها بين يديه فإن كنت أن تقدم روحك لأجل غيرك. فعلي الأقل قدّم قلبك ومشاعرك.